يتمنّى مهتمّون بالسينما إنهاء حالة الحظر الجماعي، قريباً جداً، بعد فرضها في المرحلة الجديدة من تفشّي كورونا، لإطلاق الدورة الأولى لـ"مهرجان القدس للسينما العربية". موعدٌ أول يُحدَّد بين 20 و24 يناير/ كانون الثاني 2021. التأجيل حاصلٌ، والموعد الجديد المنتظر مُحدَّد بين 20 و24 فبراير/ شباط 2021. مهرجان يريد حضوراً إضافياً في فلسطين، فيتّخذ من القدس عنواناً ومكاناً وفضاءً، مع اتّساع لائحة الاختيارات أمام أفلامٍ غير مرتبطة بفلسطين والقدس فقط.
مسابقةٌ للأفلام القصيرة تعرض 8 أفلامٍ، مُنتجة عامي 2019 و2020، باستثناء فيلمٍ واحدٍ مُنتج عام 2018. التنويع غير معنيّ بجغرافيا الإنتاج، فالتفاصيل والمشاغل والأسئلة المطروحة بصرياً تُشكِّل مداخل إلى ذاتٍ وحالةٍ وانفعالٍ، وبعضها فاضحٌ خفايا، وبعضها الآخر يُزيل كلَّ حدّ بين خيال وواقع، متمثِّلَين بسينما وحياة حميمة.
"المختبر" (2019) للفلسطينية لاريسا صنصور مختلفٌ تماماً. عالم تحت الأرض يروي اختباراً مُدمِّراً لعالمٍ وبلدان وأناسٍ. تفرّده نابعٌ من اشتغالٍ يخرج إلى الغرائبيّ في بحثه في العاديّ والواقعيّ. هذا يتناقض كلّياً مع "سيلفي زين" (2018) لأميرة دياب: إنْ تكن لفلسطين ملامح تجريبية في "المختبر"، فلها مع زين (ماريا زريق) واقعية مُسرفة في غرائبيّة عيشٍ في بلدٍ يُمزّقه احتلال وجدران، وتتوزّع فيه أديانٌ وانتماءاتٌ وصدامات. وإذْ تتمنّع لاريسا صنصور، المتعاونة مع الدنماركيّ سورٍن ليند في الإخراج (علماً أنّ الكتابة له)، بخيالٍ يجنح بها إلى تلك العوالم السفلية، كعادة أفلامٍ وروايات تجد في هذا الحيّز منبعاً لتفكيرٍ وسجال عن أحوال وحكاياتٍ؛ فإنّ دياب تحافظ على تبسيطٍ عمليّ لسرد تفاصيل رحلة تقوم بها زين إلى القدس، فتلتقي خلالها يهوداً وفلسطينيين، وتزور أمكنة مقدّسة للأديان الـ3، قبل انتهائها (زين ورحلتها) في خليطٍ ملتبس بين حلمٍ ورغباتٍ.
لمصر 4 أفلام، أحدها فائزٌ بـ"السعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير" في الدورة المُقتضبة (27 ـ 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لمهرجان "كانّ" السينمائي: "ستاشر" (16) لسامح علاء. وهناك فيلم "حنة ورد" (2019). الفيلمان الآخران مُنتجان عام 2019 أيضاً: "أمان زيادة" لنوران شريف، و"لحدّ الساعة خمسة" لشريف البنداري. الاختلاف بينها داعمٌ لتنويع تلتقي نتائجه في صُور سينمائية، تُمتِّن عملياً مفهوم الفيلم القصير وأهميته وقدراته الفنية والدرامية والجمالية على كلّ قول وتعبير واشتغالٍ، وتؤكّد جمالية تمكّنه من إلمامٍ بجوانب الحكاية وآليات سردها، وبتفاصيل الحالة وكيفية ترجمتها بصُور ومرويات بصرية. التكثيف مشتركٌ بينها. المحتوى الحكائيّ انعكاس لمسائل يومية، وطرحٌ لتساؤلات عن الذات والشعور والعيش والموت والفراق والخيبات.
مع شريف، هناك جانبٌ بسيطٌ من كوميديا المواقف، من دون إسرافٍ في مفرداتها، بقدر ما يُتاح لها حضورٌ مكتفٍ بإثارة ضحكٍ مرير وساخر إزاء ثقافة بيئة، وركائز علاقة، ومناخ اجتماع. شابّة تشتري واقياً ذكرياً من صيدلية أسفل مبنى منزلها، وفتاة صغيرة تسأل أمّها عمّا تحمله الشابّة، فيبدأ سجالٌ يتحوّل إلى عراكٍ، ثم إلى كشفٍ وفضح، مع دخول الأم إلى الصيدلية للقاء ابنتها، ويتحوّل المسار إلى تعرية علاقة بين أم وابنتها، واجتماعٍ محاصر بمنعٍ وتزمّت، وبعدم فهم الآخر والاستماع إليه. مع البنداري، اختبار تحقيق فيلمٍ داخل فيلم يؤدّي إلى كسر حواجز في الذات والعقل والانفعال، ويسأل عن ذاك الحدّ القائم/ المنعدم بين واقعٍ وحياةٍ وحميمية وخيال، ويُعيد بحثاً مبسّطاً وهادئاً وجميلاً في التمازج بين السينما والحياة. المخرجان خيري بشارة وآيتن أمين يجريان "كاستنغ" لاختيار ممثلة توافق على تحويل مقتطفات من حياتها اليومية إلى ركن أساسيّ في فيلمٍ غير مكتوبٍ مسبقاً. هديل (هديل حسان) توافق، فتنكشفُ أولاً أمام أسئلة بشارة، المنبثقة من واقع وعيش وعلاقات وأحاسيس وتفكير وبيئة؛ وثانياً أمام نفسها، إذْ تُعيد طرح ذاتها أمام ذاتها، وتحاور داخلها بإعادة تركيب ماضٍ لها مع حبيب تنفصل عنه، فلها مزاجها ورغباتها وعقدها وأهواؤها وأوهامها.
أما "ستاشر"، ففيه موتٌ كثيف، وحبٌّ كثير، وكسرٌ كبير لعوائق تُقام بين شابٍ وحبيبة. اختيار الصمت (مع كلامٍ قليل) صائبٌ في تحريك كلّ نبضٍ في الفيلم، وكلّ نَفَسٍ في شابٍ يقوده العشق المحطّم إلى اختراق حميميات. حبيبته متوفاة، وممنوع عليه كرجل وداعها، فيتنكّر بزيّ امرأة محجّبة، كي يبلغ سرير الموت وجسد الحبيبة وروحها التائهة كروحه.
"حنة ورد" يمتلك، إلى كونه صرخةً ضد عنصرية بيئة وأكاذيبها، حساسية إنسانية وأخلاقية من دون فبركة وتصنّع، بل بشفافيةِ قولٍ وسلاسة تصوير وبساطة أداء عفوي، بسرده حكاية حليمة (حليمة)، المرأة السودانية صانعة الحنّة لمن يرغب، والمتورّطة في حالةٍ غير متوقّعة، في منزل بسمة (مارينا فكتور)، التي تتحضّر لزواجٍ وتحتاج إلى حنّة، وتُبدي كل تعاطف وحبّ وانفتاح مع حليمة وابنتها ورد (ورد)، المُصابة بمرضٍ سرطانيّ. لكنّ "أمراً" ما يحصل، فيتبدّل كلّ شيء إلى نقيض السابق عليه.
المشاركة اللبنانية متمثّلة بفيلمي "حاجز" (2020) لداليا نمليش ("العربي الجديد"، 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، و"إلى أمّي" (2019) لوسيم جعجع ("العربي الجديد"، 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019). في الأول، حاجزٌ لمسلّحين اثنين يكشف عقم حياةٍ في بلدٍ (لبنان) مُشلّع على خرابٍ وارتباكات (زمن "انتفاضة 17 أكتوبر" 2019)، وفي علاقةٍ ينكشف بعض المخبّأ فيها من انفعال وتحايل وعيشٍ. في الثاني، رفض صبيّ موتَ أمّه مدخلٌ إلى رحلةٍ مبسّطة لهواجس، ينفضّ عنها الصبيّ لرغبته الشديدة في عودة أمّه إليه، ما يدفعه إلى تحدّي الجميع، وكلّ شيء.
8 أفلامٍ قصيرة تحثّ على تنبّه إضافيّ إلى جماليات الفيلم القصير، وقدراته على ابتكار أشكالٍ مختلفة لأقوالٍ، تُلحّ على مخرجات ومخرجين، فيندفعون إلى أفلامٍ قصيرة بحثاً عمّا يحرِّك مزيداً من اشتغالاتٍ وتنقيب.