ألا يزال ضرورياً فضح/ملاحقة/محاكمة أفراد/أنظمة ديكتاتورية بائدة على جرائمها، بعد عقودٍ طويلة، أمْ أنّ هذا عبثيٌّ وغير مُجدٍ؟ أمُفيد نسيان أو تجاهل الماضي الدموي، بكلّ عنفه وبشاعته، وعدم الاشتباك معه، ولو فنّياً؟ أيُمكن إرساء ضمانات لتجنّب مآسي الماضي، أو أقلّه ترسيخ قواعد تحول دون تكرارها مستقبلاً؟
الأسئلة كثيرة. لكنّ البرازيلي والتر ساليس تعمّد تركها معلّقة، إذْ لم ينشغل بتقديم إجابات، قدر إيصاله أكبر شحنة صدق فنّية مُمكنة، عبر وقائع جديده "أنا ما زلت هنا" (2024). صحيحٌ أنّ هناك مُنجزات كثيرة سابقة، روائية ووثائقية، تناولت فظائع الديكتاتوريات العسكرية في دول أميركا اللاتينية، وما ارتكبته من جرائم ممنهجة وانتهاكات حقوق الإنسان، خطفاً وتعذيباً وقتلاً، وإخفاء قسرياً للمعارضين؛ وصحيحٌ أنّ الخيوط العريضة للحبكة لا تحيد كثيراً عن هذا، لكنّ ساليس نجح في تقديم مُعالجة جذّابة ومختلفة ومُقنعة للمُتَنَاول سابقاً، إذْ تمحورت معالجته أساساً حول الابتعاد قدر الإمكان عن التورّط في السياسي، والانغماس أكثر في الذاتيّ والنفسي.
لذا، يُلاحَظ أنّ عبقرية الفيلم لا تكمن في ركونه إلى سرد وقائع حقيقية، والتركيز على هذه النقطة فقط، ولا في تناوله الصريح للاختطاف القسري في البرازيل، زمن الديكتاتورية العسكرية، وفضح هذه الممارسات، بل في الجوانب المتكاملة للاشتغال الفني، والتركيز على كيفية نقل جوانب الموضوع بأكبر مصداقية ممكنة. تجلّت حِرفيّته الإخراجية في قيادته منظومة كاملة، لم تختلّ جوانبها الفنية: كتابة بارعة للسيناريو والحوار والأحداث، وأداءً تمثيلياً صادقاً وفريداً، وفنّيات لافتة أبرزها التصوير (أدريان تَيْخيدو)، وأغلبه داخلي ينقل حقبة سبعينيات القرن الـ20 وألوانها، وتوظيف فيديوهات منزلية وصُوَر فوتوغرافية ونقلات زمنية، وغيرها من فنيات ساهمت في إبعاد الفيلم عن أيّ ملل وتكرار وميلودرامية، وأحدثت تعاطفاً وتشويقاً كثيرين، وزادت من انشغال وتفكير عميق في المطروح، مباشرة أو مواربة، تحت سطح أحداث بسيطة.
من الأمور المُثيرة للانتباه في "أنا ما زلت هنا"، أنّ ساليس ـ الذي عاش الأحداث الحقيقية بنفسه، وعاصر أسرة بايفا (تظهر في الفيلم) التي أقام في منزلها وقتاً عندما كان مُراهقاً ـ لم يركن إلى سرد وقائع روايته الخاصة للأحداث، ولا رؤيته الذاتية، ولا ذكرياته عنها، بل اعتمد مذكرات مارسليو، أحد أبنائها الخمسة، الصادرة بالعنوان نفسه عام 2015.
إلى هذا، لم يكتب ساليس السيناريو بنفسه، ولا شارك في كتابته، إذ أوكل ذلك للشابين موريلو هاوزر وهيتور لوريغا، رغم أنّهما لم يُعاصرا الأحداث، ولم يحتكّا بهذه العائلة أبداً زمن حصولها، أو في سنوات لاحقة عليها، ومع هذا فازا معاً بجائزة "الأسد الفضي لأفضل سيناريو" في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي". فوزٌ فيه تقدير والتفات لموهبتهما الواعدة في كتابة السيناريو، بعد تميّزهما أكثر من مرة بسيناريوهات رائعة ساهمت، في السنوات الأخيرة، في بروز اسم المخرج كريم عينوز وتألّقه.
في البداية، يظهر روبنز بايفا (سيلتون ميلو)، مهندس يساري وعضو حزبي وبرلماني سابق، ومعارض سرّي غير ناشط. تظهر أيضاً مدى روعته زوجاً وربّ أسرة، حنوناً ومُحبّاً وديمقراطياً، مع ما يحيطه من غموض غير مفهوم، يواكب تحرّكات سياسية محتدمة في أروقة السلطة في البلد، وتنعكس آثارها على الحضور القوي والمتزايد للجيش في الشوارع. إلى أنْ يقتحم رجال الأمن منزل الأسرة، ويصطحبونه بهدوء واحترام للتحقيق معه. ثم يمكثون أياماً في منزله مع أسرته، بحميمية وهدوء، قبل استدعاء زوجته يونيس (فرناندا توريس) للتحقيق معها أيضاً.
لاحقاً، يُفرج عن يونيس، وتُراقَب الأسرة ومنزلها بصرامة، لكن من دون أي خبر عن روبنز. يصل الأمر إلى حدّ إنكار اعتقاله، أو معرفة شيء عنه. وهذا قبل الزعم بإطلاق سراحه.
فور إطلاق سراحها، يتبدّل الفيلم. تبدأ الأحداث الفعلية، أو نقطة الانقلاب، إذْ تكاد الكاميرا لا تغيب عنها، فتنكشف قوّة المرأة المفجوعة (وصلابتها وجرأتها) في مصير الزوج والأب المجهول. دور صعب للغاية، يتطلّب قدرات تعبيرية هائلة، تجلّت أساساً في عينيها المُعبّرتين أكثر، ونبرات صوتها، وقدرتها على إبراز آثار الزمن وتغيّراته، خاصة أنّها وجدت نفسها فجأة مسؤولة عن عائلة مؤلّفة من خمسة أفراد بأعمار مختلفة، ورصيد مصرفيّ ممنوع استخدامه إلاّ بتوقيع الزوج، ومشاكل لا قِبَل لها بها.
تكافح يونيس من دون كلل، لمواجهة أعباء الحياة اليومية، ومن أجل قضية زوجها. تدرس القانون، بعد تجاوزها منتصف أربعينياتها، لملاحقة الدولة ودفعها إلى الاعتراف على الأقلّ بمسؤولية اختفائه أو خطفه أو قتله، أو في أسوأ تقدير معرفة مكان قبره. يُصبح البحث عن الزوج، والسعي الحثيث إلى تحقيق العدالة في عقودٍ عدّة، الشغل الشاغل لها، والأهمّ من أيّ شيء آخر.
عام 2010، تحصل يونيس على شهادة وفاة روبنز. لكنْ، أين قبره؟ من قتله؟ كيف؟ متى؟ لا أحد يعرف، فتظلّ حالة روبنز ومئات غيره من القضايا المُعلّقة والحسّاسة إلى الآن في البرازيل.