أن تظلّ العيون على غزّة... رغم كل شيء

07 أكتوبر 2024
في دير البلح، 1 أكتوبر 2024 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

مرّت سنة. أين نحن مما كتبنا حينها عن دور السينما مما يجري، وما تغيّر؟ آنذاك، أوحى العدوان على غزّة ومواقف الغرب منه، بفكرة تحقيق فيلمٍ وثائقي يُقدّم آراءً بما يجري. آراء أصدقاء غربيين، "المصدومين" منهم خاصة مما حصل في "طوفان الأقصى" الذين توقّفت صدمتهم عند هذا الحدّ، في هذا الحيّز الجغرافي والأخلاقي. كأنّ ما عداه ليس موجوداً، وإن وُجِد فلا يستحق الذكر، وهذا ذنبه.
هكذا، بكل بساطة، برّر من تحلّى بذاكرة اختيارية وعين واحدة تنظر في اتّجاه وحيد، رغم كلّ الضحايا والفظاعات في الطرف الآخر، الفلسطيني. كانت الرغبة كبيرة في توثيق الانحياز والنفاق، والكيل بمكيالين، وغياب النظرة العادلة.
اليوم، بعد سنة، يُطرح السؤال نفسه: كيف يُمكن للسينما أنْ تُبيّن تحوّلات المواقف، وأن تكون مرآة حقائق الواقع؟
هذا الفيلم الوثائقي الذي فكّرت في تحقيقه، من دون أنْ تكون هناك قدرة على إنجازه، يتجسّد أمامي يومياً في نشرات الأخبار الفرنسية، في مواقف وتصريحات باعثة لغيظٍ، بل لثورة لا تهدأ، ولم تهدأ إلى اليوم. مواقف وتصريحات تُبَثّ بإسهاب. آراء هؤلاء المصدومين، صدمة الاتجاه الواحد والأوحد. يُذكر أنّ هناك آخرين، لكنّ هؤلاء تكفيهم كلمة عابرة، أو صورة سريعة. هجرت الشاشة الصغيرة، لحسن الحظّ. اتّبعتِ الشاشةُ الكبيرة منحى آخر. تابعتْ أكثر تطوّر الرأي العام العالمي وتأثّره بالفظائع، وكانت مرآة أكثر عَكْساً للواقع. هل هذا لأنّ قدرة وصولها إلى الجماهير أقلّ، وبالتالي يُسمح لها بقدر من التعبير أكبر من التلفزيون؟ 
المهمّ أنّه، عبر قوة السينما، هناك دائماً أملٌ في تغيير الأشياء. لدى نجومها ذاك البريق الذي يسمح بمتابعة تصريحاتهم. كانت إداناتهم في هذا العام كثيرة، وإنْ لم يمسّ بعضها صراحة دولة العدوان، وإنْ اقتصر بعض آخر على الدعوة إلى وقف إطلاق النار، من دون الاشارة إلى همجية إسرائيل. المهرجانات السينمائية أيضاً باتت، في دول غربية، محطة ممتازة لإظهار معاناة فلسطينيي غزّة سواء بأضعف الإيمان، عبر السماح لناشطين بحمل لافتات والصياح بشعارات مندّدة بالعدوان خلال توزيع جوائز أو في حفلة ختام. أما حين كانت المهرجانات تمنع أي مظهر من مظاهر تضامنية مع الشعب الفلسطيني، ينجح التحايل دائماً في التذكير بأنّ هناك بقعة من هذا العالم يتساقط فيها ضحايا، لا يفطن لهم أصحاب القرار، وكثيراً ما ساهم في هذا التعبير فنانون معروفون.
هذه المهرجانات نفسها، كما غيرها، قرّرت تخصيص أقسام للسينما الفلسطينية في برامجها، فطرح مبرمجون تساؤلات عمّا إذا كان يُمكن للسينما أنْ تظلّ سلاحاً في مواجهة قمع الأضعف ورعب الحرب، وما إذا كان يُمكن لكلّ فيلم أنْ يكون، بطريقة فريدة، مكاناً للقصّة المضادة، وأن يحافظ على روح النضال لدينا، وعلى قدرتنا على التفكير بطريقة مختلفة، وكيف يُمكن أنْ تكون الإيماءة السينمائية في مواجهة العنف شاهداً ودعوة إلى إعادة تشكيل مجال الذاكرة.
تغيّرت أمور في عالم السينما، وهذا مثيرٌ للمشاعر. وثَّق سينمائيون فلسطينيون ما يحصل في غزّة واستعيدت أفلام سابقة على العدوان، تتناول فلسطين. في كلّ مرة، كانت قاعات المهرجانات تمتلئ، فهل أدّى كلّ هذا إلى توضيح الصورة؟

سينما ودراما
التحديثات الحية

رغم يأس حاصل من موت لا يتوقّف، ودمار على كل الأصعدة، يفتح الفيلم، مهما كانت قيمته الفنية، طاقة، ويحفر في ذاكرة المتلقّي، ويحرّضه على إعادة التفكير مهما كان موقفه. غَدَا الهدف أنّ تظلّ العيون على غزّة وأمام هذا الغرض، باتت الأفلام نوعاً ما مشروعاً إعلامياً أكثر منه فنياً. هذا يُلاحظ في أفلامٍ عدّة، تُغفر لها عشوائيّتها وارتباكها، في هذه اللحظة بالذات. كان حضورها ضرورياً وواجباً أمام إعلام غربي منحاز، يحتلّ المنصات. كانت السينما على عهدنا بها من حَمل الراية، وعبّرت مع نجوم منها عن رأي عام مُتحوّل.
يُمكن القول إنّ فيلمين لهما الأثر الأكبر عالمياً. وثائقياً، "لا أرض أخرى لنا" (2024) للمخرجين الفلسطيني باسل عدرة والإسرائيلي يوفال ابراهام، الذي أثار ضجّة في الدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي". ثم شارك في مهرجانات أوروبية عدّة. وإنْ لم يكن فيلماً استثنائياً لأيّ عربي متابع للقضية، فإنّه يوضح الصورة بكلّ تفاصيلها، وكأفضل ما يُمكن لمُشاهد غربي، عن معركة الفلسطينيين ضد محاولات محوّ الهوية والوجود، بحيث لا بُدّ أنْ يدفع إلى تساؤل عن كيفية دعم بعضهم لجرائم كهذه، أو التغاضي عنها. يخلق الفيلم حالة من التفكير، وربما مراجعة النفس، وهذا اختفى من العروض على الشاشات الصغيرة، كأنّها اتّفقت كلّها على أنْ ما يجري في طرفٍ أساسي ووحيد.
روائياً، الفيلم القصير الأخير للفلسطينية مها حاج، "ما بعد" (2024)، الفائز بجائزتي أفضل فيلم قصير للمؤلّف ولجنة تحكيم الشباب المستقلّة، في الدورة الـ77 (7 ـ 17 أغسطس/آب 2024) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي". إنّه أكثر تعبيراً من أيّ خطاب، يُشبه، بما يتركه من وجع، صورة أمِّ ملتاعة، تحمل على ساعديها طفليها التوأم، ولا يزال جمالهما لم يُمسّ، وكانا للحظات قليلة سابقة يمتلئان بالحياة.

المساهمون