يقول المفكر التونسي فتحي المسكيني مترجماً عن جاك دريدا: "إنها فريدةٌ في كل مرة، نهاية العالم". إنه حديثٌ عن الموت. هذا الحديث الذي لا يمكن أن "يصبح حديثاً عادياً في أي ثقافة، فالناس عندما يموت لديهم أحد، يكون هناك تعطل ما للعالَم".
كلُ موت هو نهاية لعالم إنسان ما، نهاية كل شيء يرتبط بهذا الإنسان، نهاية حياة لن تتكرر.
في قطاع غزة، يتربص الموت بالجميع، حيث يقضي الناس قصفاً وجوعاً وحصاراً منذ خمسة أشهر. تجاوزت أعداد الشهداء الـ 30 ألف شخص، أي انتهى أكثر من 30 ألف عالَم، كل عالم منها هو أوّل وفريد وله بصمة صاحبه بالنسبة لمن حوله. لذلك، كل موت "يظل بالنسبة لنا موتا أوّل مهما سبقته موتات أخرى". ولكن، من يروي قصص وحكايات من مات وما زال يموت إلى الآن؟
إنه الناجي الوحيد من المجزرة. الناجي الذي شهد نهاية عوالم من يحبهم أمامه. إلا أن كل ناجٍ في قطاع غزة هو "ناجٍ مع وقف التنفيذ"، بسبب تعنت الاحتلال الإسرائيلي في إبادته للجميع في غزة. أمام هذه المشهدية، لا يبقى سوى شهود الشهود، أي من هم خارج قطاع غزة، وقد تلقوا أخبار وتفاصيل المجزرة.
أن يكتب أحدهم عن المجزرة يعني أنه يشارك في توثيق تلك المجزرة في جانب ما من جوانبها الكثيرة، مثل الكتابات الأدبية والعلمية والتاريخية والسياسية التي تحلل المجزرة وتصفها للبقية لتبين مدى فظاعتها.
ثمة مستويان من تلك الكتابات التي تتناول ما يجري في قطاع غزة؛ المستوى الأول تخصصي جداً نجده في قاعات المحاكم ومراكز الدراسات. أما المستوى الثاني، والأكثر انتشاراً، فهو الكتابة الصحافية. هذا النوع من الكتابة مباشر أكثر وأقرب زمنياً لما يحصل فعلياً. وقد تفترق الكتابة الصحافية في هذا الشأن إلى أن نكتب "من أجل" وأن نكتب "بدلاً عن"، بمعنى الكتابة "من أجل" من ماتوا و"بدلاً عن" الذين لا يتمكنون من التواصل مع الآخرين والتعبير عن أنفسهم، بسبب العدوان والحصار وقطع الاتصالات، وانشغال الفلسطينيين في قطاع غزة بالبحث عن طعام.
إن الكتابة من أجل من ماتوا وعن كيف أنهى الاحتلال عوالمهم، ليس أمراً سهلاً يتجلى برصف الكلمات وسبك جيد للأسلوب، فقط، حتى تكون لدى الصحافي رواية يسردها على الناس. مهما بلغت دقة الوصف والرصف، لن يقدر أي صحافي على نقل أحد التفاصيل التي عاشها صاحبها، لأن تلك الدقة قد اعتراها قلق خلال الكتابة، إنه قلق يصاحب الكتابة عن المجزرة.
المشاهد التي نراها في غزة والقصص التي يرويها الشهود، من ثم المقالات التي توثق كل ذلك، ليست عملية آلية ولن تتحول إلى مجرد عمل صحافي يقوم بمهمته في تدوين تفاصيل المجزرة في سجلات التاريخ. ولو كان الحال كذلك، لكان هناك ما يسمى "صحافي المجزرة" أو "مراسل المجزرة"، أي مثل من يؤدي عمله في أي مكان آخر، حتى وإن كان ذلك العمل هو الضغط على الزناد أو إطلاق صاروخ على المدنيين.
قلقٌ دائم من ألا ينال من نكتب عنهم حقهم في أثناء رواية قصصهم ونقل أخبارهم؛ إذ لا يكفي التمكن في اللغة واحترافية صياغة الأسلوب في التهدئة من ذلك القلق أمام هول ما يحدث، خصوصاً وأن الكتابة أصبحت في جلّها توثيقية بسبب كثافة الأحداث؛ مجزرة تِلو الأخرى، وحصار داخل حصار، واستهدافات وانتهاكات لا تفرق بين المراحل العمرية، ولا تهتم للاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
لقد وُجِدت صفحات ومنصات على وسائل التواصل الاجتماعي، تحاول أن تروي قصص وتفاصيل حيوات من ماتوا ويموتون في قطاع غزة، يحمل بعضها شعار "مش أرقام" (لسنا أرقاماً) للدلالة على أن كل شخص منهم كانت لديه حياة كاملة وعوالم متعددة من الآمال والأحلام والمستقبل. لكن على الرغم من تلك المحاولات تبقى سردية الموت الغزية، سردية لا ينقصها توشيها بأي نوع من أنواع الكتابة، بل يجب أن نترك لها "كلّ ثراء الحداد الذي ترسله فينا".