- نولان يتجنب الحكم الأخلاقي المباشر، مفضلاً نهجاً يعكس التعقيدات الأخلاقية والإيديولوجية المرتبطة بأوبنهايمر والقنبلة الذرية، مما يترك المجال مفتوحاً لتأويلات متعددة.
- الفيلم يستكشف الجدل حول استخدام القنبلة الذرية والدوافع الأخلاقية لأوبنهايمر، مقدماً نظرة شاملة على الأسئلة الإنسانية والتاريخية المتعلقة بالقرار وتأثيراته العميقة على العالم.
بعد أن هدأت العاصفة الإعلامية التي أثارها فيلم كريستوفر نولان الأخير، "أوبنهايمر"، وبدأت أعراض حمى هوليوود تختفي تدريجياً، عادت النقاشات حول الفيلم كظاهرة عالمية، بعد أن حصل على سبع جوائز أوسكار. ما بين العرض الأول واستلام الجوائز، أتيح لنا العمل على تفكيك هذه الظاهرة بتأنٍّ ومن وجهات نظر متنوعة، وذلك عبر الفيلم الوثائقي To End All War: Oppenheimer & the Atomic Bomb الصادر قبل أسبوعين من صدور فيلم نولان.
نولان ابن هوليوود المدلل، يُصَنّف ضمن فئة فناني ما بعد الحداثة، إذ يحقق الشرط الرئيس لهذه الفئة، وهو الكتابة عن قضية ما بحيادية وبمعزل عن السؤال الأخلاقي الذي تطرحه. وعليه، يتحول معظم الكتّاب إلى مجرد قوالب، يطبعون قضية ما حسب رؤيتهم الفنية من دون محاكمة أخلاقية أو انخراط أيديولوجي بالعمل. يتركون باب التأويل مفتوحاً، هرباً من السؤال الأخلاقي. وبهذا، نرى كل الخصوم أنداداً في إنتاجه، حتى لو كان أحد الخصوم يملك قنبلة نووية والآخر مدنياً أعزل.
أوبنهايمر والقنبلة الذرية: بوابة إلى العالم الجديد
تَوجت القنبلة الذرية التي صنعها عالم الفيزياء النظرية الشهير أوبنهايمر (أبو القنبلة الذرية) ثلاثة قرون من الفيزياء. القنبلة لم تكن سلاحاً جديداً، بقدر ما كانت بوابة إلى العالم الجديد. عالم يحكمه قطب واحد. ولهذه الأسباب وجد نولان وغيره أن شخصية أوبنهايمر كنقطة تحول تاريخية، تحمل كثيراً من التأويلات، ومن الممكن صناعة تجربة سينمائية تتناسب مع حالة اللامعيارية وازدواجية المعايير التي نعيشها.
كريستوفر كاسيل مخرج وكاتب ومقدم برامج أميركي، يملك شركة Cassel Pictures. اكتسبت هذه الأخيرة سمعة جيدة على مدار العقد الماضي، وقدمت أعمالاً وثائقية متنوعة، تحمل جميعها طابعاً درامياً تقليدياً في سرد القصة. أعماله غنية بالمعلومات، وتتناول القضايا الكبرى بخطوطها العريضة، وتحمل نظرة خفيفة للتاريخ، تُقَدَّم عبر خليط تقليدي من التعليق الصوتي والأفلام الأرشيفية وإعادة التمثيل للأحداث التاريخية، قد نوصي بها لطلاب المدارس لاستخدامها كمراجع في فصولهم الدراسية لا أكثر.
ينطلق كاسيل في فيلمه To End All War: Oppenheimer & the Atomic Bomb (إنتاج NBC) من شخصية أوبنهايمر (1904 - 1967). تُروى الأحداث والتفاصيل الأساسية من حياة أوبنهايمر، مثل دراسته وحياته العاطفية وإنجازاته وسقوطه في النهاية. لإضفاء طابع الغموض على الشخصية، تم التركيز على تشبيه أوبنهايمر ببروميثيوس، الإله الأسطوري الذي سرق النار من جبل الأولمب وأهداها للبشر. وعلى هذه الفعلة، عوقب سنوات طويلة، ويذكر أن نولان اقتبس فيلمه من كتاب بعنوان بروميثيوس الأميركي.
يُدعّم العرض بلقطات مؤرشفة ومقابلات مع علماء وكتاب ومؤرخين، ليس لأحدهم ثقلٌ في اختصاصه، إلا مقابلات نولان وحديثه عن أوبنهايمر؛ فهو يعلم تماماً كيف يتحدث عن شخصياته. يحاول كاسيل عن طريق المونتاج تقديم سيرة أميركا والحرب العالمية الثانية عبر شبه سيرة حياة أبي القنبلة الذرية، وهذا ما لم ينجح فيه.
مشهد تجربة القنبلة الذرية هو المشهد الحامل لقصة أوبنهايمر، وله رمزية تاريخية مهمة، إذ شكل الانفجار سحابة تشبه الفطر، سميت حينها بعش الغراب، وهو رمز الهيمنة الأميركية الذرية لذاك العصر. تلك السحابة تشبه التي تخرج من مصباح علاء الدين بعد فَرْكه ليخرج لنا الجني، ولكن، وبسبب سذاجته (أوبنهايمر)، لم يعرف كيف يعيد هذا الجني إلى المصباح.
الترهيب بالقنبلة لا استعمالها
هل كانت القنبلة ضرورة؟ سؤال حُسِمت الإجابة عنه بـ لا، كان من الممكن الترهيب بالقنبلة من دون استعمالها لقتل أكثر من 300 ألف ياباني في هيروشيما وناغازاكي. في هذه المعضلة، يكمن المدخل لعقلية أوبنهايمر ومن خلفها المؤسسات الأميركية العميقة. الحجة الأساسية لصنع القنبلة هو دحر الخطر النازي، والدافع الأكثر تجذراً وضبابية في أوبنهايمر هو عداء السامية كونه يهودياً.
العديد ممن أجريت معهم المقابلات تحدثوا عن أوبنهايمر وشخصيته بأنه كان مضطرباً نفسياً وذا هوية غير واضحة، والعديد من الحجج النفسية السائلة؛ فنراه في العرض شاباً معزولاً، بالغت أمه في القلق عليه. كلها حجج غير مقنعة. حتى السقوط التراجيدي لهذا البطل الأسطوري غير مقنع، هو في الحقيقية سقوط كوميدي، إذ لم يكن عقابه أكثر من إلغاء تصريحه الأمني.
نراه أيضاً شخصية روحانية، له وجهة نظر بالقنبلة تشبه الميتافيزيقية الشرقية؛ مثقف مسالم، تعامل مع أسئلة عصره بأفضل طريقة ممكنة، شخص ساحر، زير نساء (لا نعلم من أطلق عليه هذا اللقب، إذ للرجل طليقة وزوجة فقط). تتكثف هذه الصفات أمام المُشاهد في لقطة أرشيفية من إحدى مقابلاته الشهيرة وهو يردد جملة من ملحمة البهاغافاد جيتا الهندوسية، إذ قال وهو ينظر إلى الانفجار التجريبي للقنبلة في صحراء نيو ماكسيكو "الآن أنا الموت، أنا مدمّر العالم". وهذا القول ليس مثبتاً أيضاً، وقد يكون استخدامه إضافة درامية فقط.
في المقابل، غُيِّب في العرض حماس أوبنهايمر لتجربة إنجازه، ولم تقدم للمُشاهد الحقيقة وراء إلقاء قنبلتين على اليابان لا واحدة. حينها، كان أوبنهايمر (ومن خلفه أميركا) يريد المقارنة بين قنبلة نظائر اليورانيوم وقنبلة نظائر البلوتونيوم. ولدمج أكثر ما يحب أوبنهايمر، وهما العلم والصحراء، شُيدت بلدة كاملة في صحراء نيو مكسيكو للعمل على القنبلة، ولتحقيق حلم أوبنهايمر الطفولي، أُزيح آلاف السكان الأصليين من موطنهم.
أكثر ما قد يثير الاستياء من العمل، هو اقتراح أوبنهايمر مدناً عدة يابانية مسطحة لإسقاط القنبلة عليها، حتى يرى بوضوح خصائص هذه القنابل والفروقات ما بينها. هذا الإنجاز ترك وراءه فطراً قبيحاً في السماء، وزهور الكومينو الجميلة (لباس تقليدي في اليابان) موشومة حرقاً على جلود اليابانيين.
قصة أوبنهايمر هي قصة أميركا نفسها، والده لاجئ ألماني ينتقل بعد أرباح كبيرة من عمله بالنسيج إلى منطقة ريفرسايد، أمه رسامة فرنسية، وواجبه كرجل أميركي عظيم أن يتغلب على شكوكه وعيوبه حتى يترك بصمته في العالم.
فيلم أوبنهايمر هو المقابل السينمائي الحي لدول حقوق الإنسان عندما تكشر عن أنيابها. يصيبنا الرعب عند مشاهدة هذا الاحتفاء المبالغ فيه. على الأرجح أننا سنشاهد في المستقبل كثيراً من السير الذاتية لمخترعين جرّبوا أسلحتهم على أجسامنا، نحن من لا نعيش في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية.