استمع إلى الملخص
- **التحديات المهنية في ظل الأزمات:** المهن تصبح أكثر تعقيدًا في ظل الأزمات، حيث تصبح الكتابة والتحرير مهامًا مقلقة في بيئة مهددة بالدمار.
- **البحث عن ملاذ في الفنون والكتابة:** الإبادة في غزة تفرض نفسها، والبحث عن ملاذ في الفنون لا يوفر الراحة المطلوبة، لكن يبقى الأمل في العثور على الخلاص في كتاب أو فيلم.
أمرٌ ما غير حاصلٍ في بلدٍ غير واضح مصيره. هذا مُتعِبٌ للغاية. فعيش اليوميّ من دون تفكير بالتالي عليه مُفيدٌ في حياةٍ سوية، لكنّه يُثير متاعب في النفس والروح، وربما الجسد أيضاً، عندما تتعطّل الأمور الحياتية كلّها، ويتفشّى خرابٌ، والفضاء مفتوحٌ لعدوّ غير آبهٍ بشيء.
المهنة متطلّبة، وهذا معروف ومُكرّر، وغير مزعج البتّة. كتابةٌ وتحرير مقالات وأخبار، واختيار صُور لهذا كلّه، عادي ولذيذ. لكنّ هذا كلّه يعاني قلقاً، فجدار الصوت يُزلزل مدينةً معطوبة أصلاً، ووحشية العدوّ معروفة، مع أنّ العدوّ نفسه يتفوّق على ذاته في القتل والتدمير، بل في الإبادة. انتظار موتٍ أمرٌ بديهي، فالموت قدرٌ لا مفرّ منه. مع هذا، لن يحول الانتظار دون عيشٍ واختراع فرحٍ ومتع، إنْ يكن البلد آمناً، والحياة فيه عادية.
الإبادة في غزّة طاغيةٌ، وعدم المشاهدة اليومية غير مانعةٍ متابعة عبر وسائل أخرى. اختيار فيلمٍ أو مسألة سينمائيين لكتابةٍ، تسعى إلى تحليلٍ ونقاش مع الذات أولاً حولهما، يُصاب غالباً بمحيطٍ غارقٍ في الدم والغبار، أو في لامبالاة جماعية خانقة إزاء ما يجري في المحيط، بل إزاء الخراب المعتمل في البلد. أي فيلمٍ يُمكن أنْ يُمتَّع أحدٌ، والانهيار يُضيِّق مساحات العيش؟ أي مسألة يذهب الناقد فيها إلى الأعمق والأبعد، إنْ يشتدّ الخناق، والتنفّس يُهلك جسداً وروحاً، مع أنّه معنيّ بإنعاشهما؟
ثم يُعلَن نبأ وفاة عامل أو عاملةٍ في السينما، هنا وهناك، فتُصبح الكتابة واجباً أكثر من أي شيءٍ آخر. كيف يُكتب في رحيلٍ، والموت يوميّ إلى حدّ أنّ كثيرين وكثيرات غير مكترثين وغير منتبهين؟ ما معنى كتابةٍ ترثي أو تودّع، والموت ناشطٌ في أمكنةٍ ومناخاتٍ وعلاقات؟ كيف تُناقَش سيرة راحل ـ راحلة، في مهنة وحياة وأفعال، وما يُحيط بمن يُفترض به أنْ يناقش مُصابٌ بأمراضٍ غير قابلة لشفاء؟ من يقرأ هذا كلّه أصلاً؟ ولماذا يقرأه؟ وما الفائدة من كتابته وقراءته؟ أي فراغٍ هذا؟ أي وحشٍ ينقضّ على من يُعلِن فرحاً، ولو مؤقّتاً، بفيلمٍ ساحر رغم قسوة ما يرويه ويصفه ويعاينه؟ أي تنينٍ يخرج من كلّ الجهات، فتتحوّل متعةٌ بسيطة إلى قهرٍ وانكفاء؟
هذا ليس تنظيراً أو تباهياً بكتابةٍ تريد أنْ تكون سينمائية، فتنشقّ السماء عن أصواتٍ تقول إنّ كلّ شيءٍ منتهٍ، ولا خلاص من جحيم بلدٍ ومحيطٍ. محاولة لجوءٍ إلى فيسبوك مثلاً، لابتعادٍ قليلٍ عن كتابة وقلق، تُحبَط، فالمكتوب في فيسبوك أسوأ بكثير، غالباً، من الحاصل في بلدٍ ومحيط. سخريةٌ غير مُضحكةٍ، أحياناً كثيرة، وشتائم تتلاءم وسلوك واقعي. حجّة الأولى عجزٌ عن فعلٍ مُفيد في الواقع، والسخرية ملاذٌ، أياً يكن شكلها أو مضمونها. لا حجّة للثانية، لأنّها منبثقةٌ من تربية وثقافة تبلغان حدّاً لا يُحتَمل من البؤس.
أمّا الصالة، فعتمتها غير متلائمةٍ أبداً مع معنى الطقس السينمائي، لأنّها عتمة نفوس وأرواح قاتمة. الانزواء في منزلٍ راحةٌ مقبولة. لكن الوحدة خانقة، وإنْ يكن هناك كتابٌ يُقرأ، أو مجلةٌ تُتصفَّح، أو فيلمٌ يُشاهَد، أو شاشةٌ صغيرة تُسلّي، إنْ يبتعد المنزوي في منزله عن أخبارٍ. أمّا الحانات، فمليئة بتوترات وانشقاقات، مع أنّ الضحكات عاليةٌ إلى حدّ التصنّع، والمتعة الحقيقية نادرةٌ. أمّا الأزقّة القليلة، ففارغةٌ، مع أنّ زحمةً تضجّ بها تلك الأزقة، نهاراً أكثر منه ليلاً، من دون نفعٍ.
مؤكّدٌ أنّ في زاويةٍ ما خلاصاً ما. أنّ كتاباً أو مجلة أو فيلماً أو شاشة صغيرة أو حانة ملجأٌ ما. الخوف كلّ الخوف أنْ ينقضّ الوحش رفقة التنين على تلك الزاوية، في وقتٍ ما.