ببسمةٍ صادقةٍ وتواضعٍ شديدٍ، يستقبلك الأركيولوجي المغربيّ إبراهيم فدادي (1959) وفي عينيه دهشة اللقاء. وبسرعة البرق، ينقلك إلى عالَم الآثار، حتى تتملّكك الرغبة في المعرفة، وتشعر بأنّ ذهنك قد تلاشى في حمأة الحوار وحرارته، فتُحس بأنّك تعيش زمناً رومانياً أو إغريقياً سابقاً على وجودك وزمنك، إذْ يُدخلك فدادي إلى سراديب تاريخ المغرب القديم وحفرياته الأثريّة، منذ الحقبة الكولونياليّة إلى اليوم.
في هذا الحوار الخاصّ، تلتقي "العربي الجديد"، في مدينة الدار البيضاء، بالأركيولوجي إبراهيم فدادي، المعروف في الأوساط الأثريّة المغربيّة بقيامه بالعديد من الحفريات داخل المغرب وخارجه، بما يجعله أركيولوجياً يمتلك من العدّة النظرية والذكاء الميداني، ما يُؤهّله بجدارة للخوض والمُساهمة في إغناء مشروع موقع مدينة وليلي الأثريّ، وذلك بمُناسبة عزم كل من سفارة الولايات المتّحدة ووزارة الثقافة المغربيّة على ترميم فسيفساء موقع وليلي الأثريّ وصيانة عشرات الألواح الفسيفسائية هناك، ولا سيما أنّ فدادي، يُعدّ من كبار المُتخصّصين الأركيولوجيين في هذا الموقع الأثريّ، بعد أنْ أنجز أطروحة الدكتوراه الأولى في جامعة "إكس أون بروفانس" الفرنسيّة حول وليلي، والثانية حول تيجان وبقايا الأعمدة الرومانسية في المغرب، ثمّ ساهم في التنقيب والحفر والإعداد والكتابة في أكثر من موقعٍ أثريّ مغربيّ رفقة بعثات وطنية وأوروبية.
اسم وليلي يأتي من كلمة "أليلي"، وهو نبات يعيش في الأودية المُجاورة للمدينة. الموقع معروفٌ في المَصادر التاريخيّة القديمة، وذُكر في الكثير من الكتب الإغريقية والرومانية. ومدينة وليلي بُنيت في موقع طبيعي ممتاز، إذْ تُحيط بها المياه من مختلف الجوانب. فهي محاطة بواديين من الشرق والجنوب، وتوجد عين ماء غزيرة أعلى المدينة، وكانت تزوّدها بالماء الصالح للشرب والماء. كان الماء يُستعمل في النوافير والأحواض الداخلية لبعض المنازل في مختلف الأحياء.
لذلك، فإنّ موقعها ممتاز، لأنها محاطة بالحقول الفسيحة، وكانت تستعمل في صناعة الخضروات التي تُغطّي ما كانت تحتاجه الساكنة من مواد غذائية في المجال الفلاحي. وهذه الحقول كانت تزرع فيها أشجار الزيتون، لذلك عثر علماء الآثار على الكثير من المعاصر للزيتون وسط المدينة. ثمّ إنّها محاطة بجبال تُستعمل كمصدر للحجارة التي بُنبت بها المدينة ومراقبة القبائل الأخرى المُجاورة. أمّا تاريخها فهو عريق، فقد كانت نتيجة للواقع الذي استقرّ فيه الإنسان منذ القرن الثالث قبل الميلاد.
ما الخصوصيات التاريخيّة والأركيولوجية التي اكتسبها الموقع منذ اكتشافه أوّل مرّة؟
خلُص علماء الآثار إلى أنّ المدينة كانت موجودة قبل قدوم الرومان إلى المغرب في 40 ميلادية، إذ أثبتوا أنّ المدينة كانت عبارة عن قرية كبيرة، بل هناك من يذهب إلى أنّها كانت مدينة وعاصمة للملك الأمازيغي يوبا الثاني. وهذا الأخير، كان يحكم شمال أفريقيا، وكانت له عاصمة شرشال في الجزائر ووليلي في المغرب. مَن يساندون هذا الرأي، استندوا إلى وجود المنازل الكبيرة في الحي الشمالي الشرقي للمدينة، بما فيها قصر "غورديانوس"، وأيضاً لكثرة التماثيل البرونزية والرخامية التي عُثر عليها في المدينة، بما فيها التمثال النصفي ليوبا الثاني. هذه التماثيل أغلبها موجود في المتحف الأثريّ في الرباط. لكنْ لا تزال الحفريات مُستمرة إلى اليوم وسط المدينة، لاستخراج أكبر عدد ممكن من اللقى الأثريّة التي تعود إلى مرحلة ما قبل الرومان.
لكنْ حين انسحبت روما من المدينة، تدهورت وعرفت كثيراً من الخراب. لكن في فترة من تاريخها، اقترن اسمها بالمولى إدريس الأوّل، فعند وصوله إلى المغرب، استقر جنوب وليلي، ولا تزال الآثار قائمة. وبعد وفاة المولى إدريس، نُسي الموقع نهائياً، إلى غاية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين زارها العديد من الرحّالة الأوروبيين، وانتبهوا إلى آثارها؛ إذْ إنّ الكثير من هذه الآثار ظلّت قائمة وواقفة إلى حدود زلزال لشبونة الذي دمّر مجموعة من آثارها. وكان الناس القاطنون فيها يُسمونها "قصر فرعون"، نتيجة مبانيها الضخمة والأحجار الكبير التي استعملت في عملية البناء.
في 1915، شرعت السلطات الفرنسيّة في الحفريات، وكان الفرنسيون يستعملون سجناء الحرب العالمية الأولى للقيام بالحفريات الأثريّة في المدينة. ومنذ ذلك التاريخ، لم تتوقّف الحفريات في وليلي وأحيائها.
لماذا حصل موقع وليلي الأثريّ على كل هذه الشهرة، مقارنة بمواقع أثريّة مغربيّة أخرى كـ "بناصا" و"زليل" و"ليكسوس"؟
سرّ شهرة موقع وليلي راجع إلى أن السلطات الفرنسيّة اهتمت بالمدينة، لأنّ فيها آثاراً واضحة وبيّنة، ثم إنّ المدينة مذكورة في كثير من المصادر القديمة. ورمم علماء الآثار الفرنسيون مجمل المدينة، وأعادوا بناء "قوس النصر" و"قصر العدالة" و"الساحة العامّة" وكذلك "الكابيتول" أو المعبد. كما رمموا الكثير من منازل الحيّ الشرقي التي تبيّن للزائرين كيف كان المنزل في الفترة الرومانية، لأنّ الذي يزورها يفهم بكل سهولة أن المنزل الروماني خلال هذه الفترة كان كبيراً، وجزء منه مخصص للضيوف وفيه قاعة استقبال كبيرة جداً أمام نافورة مياه وجانب آخر مخصّص لصاحب المنزل وأهله، وفيه مطبخ وحمامات وأحواض مياه، وفي بعض الأحيان معاصر زيتون وأفران. هذه التشكيلات الأثريّة جعلت من موقع وليلي شهيراً.
كما أنه في المرحلة الأولى استدعي السياح الأجانب في الفترة الاستعمارية لزيارة المدينة، ما جعلها شهيرة، فكل وكالات السياحة تضعها في خطط وطريق السيّاح الذين يزورون المغرب. هناك، يعثر الزائر على حافلاتٍ سياحية يوميّة تزور وليلي، ما جعلها تحظى بالاهتمام، مقارنة بمواقع أخرى.
إلى أيّ حد استطاعت مندوبية التراث الحفاظ عليه وإعادة ترميمه والتعريف به وتثمينه سياحياً؟
طبعاً، حافظ الفرنسيون على الموقع بشكلٍ كبير ورمّموه ووضعوا مكاناً خاصّاً بالمُحافظ الذي يشرف على الموقع ووضع محافظة تُسمّى بمحافظة وليلي. لكنْ، بعد الاستقلال، حافظ المَغاربة على هذا الموقع بشكله الحالي، ومديرية التراث ساهمت أيضاً في تشجيع الحفريات الأثريّة في الموقع وساهمت كذلك في ترميم بعض الأماكن التي لم تشملها عملية الترميم السابقة.
ووضعت المُديرية في السنوات الأخيرة متحفاً على مدخل المدينة، وهو مهمّ جداً بالنسبة للزائر، حيث يُمكّنه من الاطلاع على مجموعة من الصُور والبيانات والكتابات التاريخيّة، وجمعوا فيه أغلب التُحف الفنّية، التي كان يزخر بها موقع وليلي الأثريّ. إضافة إلى أنّها سيجت الموقع بشكل عام، حتى لا تدخل الحيوانات إلى المكان.
حظي موقع مدينة وليلي الأثري هذه الأيام بدعم مادي من الولايات المتحدة، بغية ترميم فسيفساء وليلي. هل هذا يعني أنّ فسيفساء الموقع، ظلّت غير مُرمّمة كلّ هذه الفترة؟
هذا الدعم حقيقة جاء في وقته بشكلٍ كبير، لأنّ كل منازل حيّ الشمال الشرقي فيها فسيفساء، إضافة إلى منزل آخر في الحيّ الجنوبي يُسمّى "أورفي" وفيه فسيفساء كبيرة. وأغلب مواضيعها مُستمدّة من الأساطير الرومانية والإغريقية ومن الطبيعة المُحيطة بالمدينة. فمنزل "أورفي" مثلاً سُمّي بهذا الاسم لكونه عازفاً يؤدي على آلة موسيقيّة، لا يستمع إليها فقط البشر، بل جميع الكائنات الأخرى. لذلك تُصوّر فسيفساء "أورفي" في الوسط وكل البشر والنباتات والحيوانات ينظرون إليه ويستمعون إليه. وهذه الفسيفساء موجودة في قاعة كبيرة في منزل "أورفي". وهناك فسيفساء أعمال "هرقل" التي تُوضّح الأعمال الـ 12 التي قام بها وبشكلٍ جيّد. وهناك فسيفساءات متعدّدة أخرى شمالاً مثل "فينوس".
هذه الفسيفساءات رممت في بدايات القرن الـ 20، وهي التي ظلّت تجذب السكّان لموقع وليلي الأثريّ، لكنْ مع توالي السنوات، دمّرت، إمّا بفعل عوامل التعرية أو كثرة مشي الزوّاق والسيّاح عليها، فتدهورت حالتها الجماليّة ولم تعُد تظهر بشكلٍ جيّد، لأنّها مصنوعة من أحجار صغيرة متعدّدة الألوان.
وبالتالي، فإنّ الدعم الأميركي للموقع سيكون له وقع إيجابي وكبير حول الجانب العلمي لهذه الفسيفساء، لا سيما وأنّ بعضها تدهور لدرجة أنّنا لم نُعد نعرف عوالمها الفنّية والشكل الأوّل الذي كانت عليه، رغم أنّ ترميم الفسيفساء يتطلّب وقتاً كبيراً وإمكاناتٍ علمية ومادّية.