على قمة قائمة لائحة نجوم الموسيقى الجماهيرية (Pop) الأكثر شعبية في أميركا (US Charts)، لا يعلو أحدٌ منذ تاريخها إلى اليوم فوق البريطاني إلتون جون (Elton John) سوى اسمي فرقتين؛ "ذا بيتلز" و"ذا رولينغ ستونز".
خمسون عاماً من السيرة الفنية، حصد خلالها ثمانية وثلاثين جائزة غولدن غلوب، واحدا وثلاثين بلاتينيوم، أي إصدار موسيقي تتجاوز مبيعاته داخل الولايات المتحدة الأميركية المليون نسخة، علاوة على بيعه أكثر من ربع مليار ألبوم حول العام. مطلع الشهر الحالي، ومن العاصمة السويدية استوكهولم، اختتم الرجل جولته الفنية الماراثونية الأخيرة قبيل اعتزاله، واصفاً السنين التي قضاها في دنيا الموسيقى بـ"البهجة المحضة"، مؤكدا لجمهوره أنهم لباقون في قلبه وروحه.
لم يقتصر ما ميّز إلتون جون (1947) على كلمات الأغاني المؤثرة والمعالجة الموسيقية الفريدة والأداء الجذّاب وحسب، أكان حضوراً أم حنجرة، على خشبة المسرح أو داخل غرفة الأستوديو، وإنما أيضاً ذلك العملاق الخشبي الأسود الذي لطالما جلس إليه، فاقترنت صورته به، وارتبطت أغانيه بصوته مُفرِّداً كان أم مصاحباً، ألا وهو آلة البيانو.
ذاك أنه حين كان لا يزال في ريعان الصبا، درس الموسيقى على منهج احترافي، مختصاً بالعزف على البيانو، وفي واحدة من الكليات الموسيقية الأفضل في العالم، الأكاديمية الملكية للموسيقى في لندن. نشأةٌ راسخة الدعائم المعرفية والأركان التقنية، من شأنها أن ختمت كلّ أغنية ألّفها في ما بعد، بختم الدربة وحسن الصنعة. ذاع صيت مدوّنات أغانيه بين عازفي البيانو المحترفين، بوصفها سهلاً ممتنعاً حيناً، وممتنعاً مُغالياً في امتناعه في أحيان عدة. وذلك لتعقيد الخطوط اللحنية فيها، وتركيب المعالجات الهارمونية التي توائم تلك الخطوط مع بعضها بعضاً.
مثلها مثل آلة الغيتار، تُعد البيانو رفيق درب المغنية أو المغني، نظيرتها في الموسيقى العربية هي آلة العود، كلما أتقن عزفها زاد إتقانه للغناء. إنما يعود إلى قدرتها على مدّ المغني بطيف نغمي واسع تحت تصرّفه وفي متناول أصابع يديه، فيستطيع من خلاله إنتاج كل التآلفات السلمية المُمكنة، ضمن حدود الموسيقى السلمية الغربية الخالية من البُعيدات، كتلك التي تميّز الموسيقى الشرقية. إضافةً إلى سهولة تركيب التآلفات عمودياً أو أفقياً ثم عزفها آنياً بصورة فردية، فيما الحنجرة حُرة تصدح بالغناء بطلاقة.
مثلاً، تظهر البراعة العزفية في أغنية لجون بعنوان Take Me To The Pilot إصدار سنة 1970. كتبها بنفسه بالتعاون مع كاتب كلمات الأغاني برني تاوبن (Bernie Taupin)، وسُجّلت على أسطوانة ثُنائية، أي على كلّ وجه أغنية، قابلتها على الوجه الآخر واحدة من أشهر أغانيه وعنوانها Your Song.
في Take Me To The Pilot، يتجلّى مدى القوة التعبيرية والتماسك الأدائي الذي تُنثَر بموجبه السلاسل النغمية الأولى (الأكوردات)، فيفتتح بها جون الأغنية. لئن تنتمي الأغنية إلى جنس البلوز والروك آند رول، فإنها تقتضي صخباً وخبطاً إيقاعياً هدّاراً، عادةً ما يستدعي تدخّل الطبول والغيتارات الكهربائية. إلا أن بيانو جون يتصدّى للمتطلبات الأسلوبية عبر كتابة هارمونية تحشر كل النغمات العمودية الممكنة في ضربة واحدة على مفاتيح البيانو، وعلى الأخص عند مستوى الباص المنخفض. كل ذلك، من دون أن يفقد البيانو خفّة وزنه، والتي ستُمكّنه من الحفاظ على طابع الرشاقة، لا سيما عند المرور على إيقاعات مُرتدة، أو سينكوب (Syncope).
أما الشهادة الأمثل على براعة الفنان، فليست في عزف البيانو فقط، وإنما مجمل التأليف والكتابة الموسيقية لتلك الآلة، فهي المقطوعة الآلية المعنونة بـ Funeral For A Friend. سُجّلت سنة 1973 ضمن ألبوم مزدوج بعنوان Goodbye Yellow Brick Road (هو عنوان الأغنية التي بها ختم جولته الوداعية الأخيرة) وتُقدّم متبوعةً بأغنية عُنوِنت بـ Love Lies Bleeding.
من خلال Funeral For A Friend، يُقدم جون تصوراً للموسيقى التي يود أن تُعزف ضمن مراسم جنازته. لدى مراقبة العروض الحية التي أدّيت خلالها الأغنية، كحفل مدينة ويمبلي البريطانية مثلاً، سنة 1977، تبدو بجلاء الوضعية الصحيحة التي يتّبعها جون في العزف على البيانو. اليدان مكوّرتان على شكل قبضة مُنبسطة، الظهر منتصب والذراعان والكتفان يتكئان بثقليهما على مفاتيح البيانو، بفعله يُحرّكان اليدين، ما يؤمن للأصابع قوة طبيعية واستطالة تُمكّنهما من إدراك جميع النغمات والتصويت على مختلف الشدِّات بُيسر، من دون عناء.
وبينما تُسند للغيتار الكهربائي المنفرد مُهمة تقديم الألحان الرئيسية للمقطوعة، لا تغيب عن الأذن المصغية الألعاب الأكروباتية التي يُنفذها جون في الخلفية منفرداً على آلته البيانو. بواسطتها، يقوم بارتجال أنماط لحنية وهارمونية معقدة، أفقية وشاقولية، فيزوّق ويزركش البُقع الفارغة التي تتركها الألحان في الصمت، مانحاً المقطوعة ثراءً نسيجيّاً وغنى نغمياً يزيد تجربة الاستماع إليها ترقّباً وتشويقاً.
التربية الموسيقية المتأصلة المتينة التي تلقّاها جون في صغره لم تُفقده الشخصية الارتجالية المتمثّلة بالأريحية والتلقائية، سواءً لدى تفاعله مع الموسيقيين، أو مع الجمهور. بهذا، تُعدّ تجربته نموذجاً على حسن توظيف المعرفة الفنية في إنتاج موسيقى حافظت على سمتها الترفيهية وعلى قُربها من الجماهير، فحازت على صفة الجماهيرية بجدارة.
وفي نفس الوقت، عرضت منتجاً متماسكاّ من الناحية التقنية، سيظلّ مُلهماً قابلاً لأن يعمَر طويلاً في الذاكرة الجمعية. وفي ذلك المنتج الموسيقي، تلعب آلة البيانو دوراً أساسياً، ليس فقط في تشكيل هوية جون الفنية عند إطلاله على جمهوره. وإنما أيضاً في تمكينه من تأليف وتلحين أغان على مستوى متقدم من التركيب السلس: كأني بالبيانو ههنا، ذلك الحاسوب السحري، الذي بواسطته يستطيع الموسيقي الموهوب المقتدر أن يخترق القلوب والعقول.