للملكة البريطانية إليزابيث الثانية حضورٌ في صناعتي السينما والتلفزيون. اشتغالات بصرية مختلفة تتناول مقتطفات من سيرتها المليئة بأحداثٍ وشخصيات وانقلابات وارتباكات. فالملكة، المتوّجة على عرش المملكة المتحدة وبريطانيا وأيرلندا الشمالية، بالإضافة إلى 14 دولة ذات سيادة ضمن ما يُعرف بـ"دول الكومنولوث"، شاهدةٌ على زمنٍ حافلٍ بما يُحرِّض الخيال السينمائي على إنجاز أفلامٍ وأعمالٍ تلفزيونية، بعض وقائعها على الأقلّ مُستلٌّ من حقائق العيش في مملكةٍ معروفة، سابقاً، بـ"الامبراطورية التي لا تغيب الشمس عنها".
70 عاماً (6 فبراير/شباط 1952 ـ 8 سبتمبر/أيلول 2022) صالحةٌ لأنْ تُثري نصوصاً سينمائية وتلفزيونية، كشخصيتها التي تُلهم ممثلاتٍ عديدات على اختباراتٍ أدائية، تتراوح بين عمق الدراما، الذاتية والنفسية والاجتماعية، وخليط من كوميديا و"باروديا" عادية. لكنّ الأهمّ بين النتاجات السينمائية المختلفة يبقى "الملكة" (2006)، للإنكليزي ستيفن فريرز الذي يُتيح للبريطانية الأميركية هلن ميرن تقديم أحد أدوارها الأجمل والأعمق، عاكسةً به (الدور) إحدى أهمّ الصُور السينمائية عن ملكةٍ ينتظر ابنها الأمير تشارلز الثالث 70 عاماً كي يُصبح ملكاً يرث والدته.
انتظار الأمير تشارلز الثالث هذا الزمن كلّه (يُسمَّى وليّاً للعهد، لحظة تبوّأ والدته العرش الملكي، قبل أنْ يبلغ 4 أعوام، فهو مولود في 14 سبتمبر/أيلول 1948) كافٍ لإنجاز سيرة سينمائية عن طموحٍ ورغباتٍ وهواجس وارتباكات وعلاقات، متوترة أو هادئة أو سليمة، بين أفراد العائلة، خاصة بينه وبين الملكة. انتظارٌ يمنح الكوميديا الساخرة مادة للتهكّم أيضاً، ويجعل السينما حيّزاً لتفكيك ذاتٍ وروح، لما في هذه الشخصية (تشارلز الثالث) من فجوات واضطرابات وآثار ضغوطٍ وتقلّبات، يستسيغها سينمائيون عديدون، فيُحوّلونها إلى أفلامٍ، يُمكن أنْ تكون باهرة أحياناً.
هذا، رغم ظهور شخصيّته في أعمالٍ تلفزيونية ومسرحية، أبرزها سلسلتان تلفزيونيتان: (التاج The Crown، ابتكار البريطاني بيتر مورغان، 4 مواسم، بدءاً من عام 2016، المنصّة الأميركية نتفليكس) و"أساطير الغد" (Legends Of Tomorrow، مستوحى من شخصيات دي سي كوميكس، 7 مواسم، بدءاً من عام 2016، المحطة الأميركية The CW).
لكنّ انتظاره الطويل ليُصبح ملكاً، وهذا يتحقّق قبل 6 أيام من احتفاله بعيد ميلاده الـ74، يبقى أكثر جذباً للمتخيّل البصري، لتحقيق ما يُشبه سيرة حياة سينمائية. "الملكة" فيلمٌ متين الصُنعة، أداءً واشتغالاتٍ فنية ودرامية وجمالية، وشهادة سينمائية عن لحظة حرجة في حياة الملكة إليزابيث الثانية، وحياة المملكة والمجتمع والناس. لحظة تتمثّل بمقتل اللايدي دَيانا في باريس (نفق ألما، 31 أغسطس/آب 1997)، برفقة حبيبها دودي الفايد. شهادة تكشف شيئاً من كواليس القصر الملكي ومقرّ رئاسة الوزراء، فتوني بلير يُفاوض الملكة بخصوص كيفية تعاطيها مع الحادثة، جاهداً في إعادتها إلى محيطها الشعبي، المُتعاطف كثيراً مع الأميرة الراحلة، والغاضب من الملكة، كثيراً أيضاً.
فيلمٌ يستند إلى تحليل متكامل بين الذات/الروح والسياسة والإعلام والجماهير، تُضيف هلن ميرن، بأدائها، رونقاً لنصٍّ مهمومٍ ببحثٍ في نفوسٍ وتفكيرٍ والتزامات ومسالك، فتنال بفضله جائزتي "أوسكار" (هوليوود) و"بافتا" (لندن) في فئة أفضل ممثلة (2007).
مفاصل عدّة في البُنية الدرامية مُثيرة للتنبّه والمتابعة، خاصة في لقاءات الملكة مع بلير (البريطاني مايكل شين)، وفي خروجها من القصر إلى الشارع، بناء على نصيحته، فتلتقي أناساً يملؤهم الحزن والغضب، وتتأمّل باقات الورد والزهور والصُور والكتابات، فتُصافح محتشدين أمامها، كاسرةً، ولو قليلاً، جدار الفصل بين الطرفين. ميرن، في هذا كلّه، تُكمِل اشتغالها على شخصية امرأة "باردة المشاعر والانفعالات"، كما توصف، متجاوزةً هذه البرودة إلى سماتٍ تتساوى وإياها: سحرُها ودُعاباتها، وكاشفةً جوانب خفيّة فيها، بتكامل مع نصّ (سيناريو بيتر مورغان) وإخراجٍ يصنعان كشفاً كهذا، في لحظةٍ قاسيةٍ، تتمثّل بحزن جماعي على مقتل شابّة يُحبّها كثيرون وكثيرات، ويتعاطفون معها في عيشها جحيم العائلة المالكة، وسطوة زوجٍ تتعدّد ارتباطاته العاطفية رغم زواجه، وينفرون من ملكةٍ غير متصالحة مع الأميرة، ومن ولي عهدٍ مغضوبٍ عليه.
في مقابل هلن ميرن، تظهر البريطانية جولي والترز، "الممثلة الأهمّ والأكبر في فنّ الدراما" في بلدها (كما في تعليقٍ نقدي)، مانحةً صوتها للملكة الراحلة في فيلم التحريك البلجيكي The Queen's Corgi، لبِنْ سْتاسن وفانسان كِسْتولووت (2019). الميزة الأساسية للفيلم (كورجي نوعٌ من أنواع الكلاب) كامنةٌ في مزجه التحريك بحكاية الكلب ريكس، المفضَّل لدى الملكة، مُضيفاً شيئاً من السخرية والكوميديا، فريكس يعضّ دونالد ترامب خطأ، عندما يحاول الهرب من كلبة الأخير، ميتزي. في هربه من عارٍ يشعر به، يواجه ريكس تحدّيات جمّة، أبرزها اكتشافه أنّ تشارلي (أيكون انعكاساً ما لشخصية الأمير تشارلز؟)، الكلب المُفضَّل أيضاً لدى الملكة، يُدبِّر انقلاباً عليه، لطرده من نعيمه الملكيّ مع إليزابيث الثانية.
صحيحٌ أنّ عودة ريكس إلى الحضن الملكيّ نواة أساسية للفيلم، وأنّ التحريك كلّه مبنيّ على رحلته المحفوفة بمخاطر وقلق. لكنّ الملكة، بصوت جولي والترز، تحضر مباشرة وفي خلفية أحداثٍ ومسارات، فهي الملاذ والحضن والحماية لكلبٍ، ينتصر لمكانته الكبيرة، ويتغلّب على "أعدائه" في القصر.
الجانب الكوميدي الساخر في The Queen's Corgi يعثر لنفسه على مكانٍ أساسي في أفلامٍ، منها "قبلات طيّبة من هونغ كونغ" (1975) للفرنسي إيفان شيفر: ثري أميركي مُصاب بجنون العظمة، يخطف الملكة إليزابيث الثانية (الفرنسية أوغيت فانفروك، المشهورة بشبهها الكبير بالملكة نفسها)، فتطلب المخابرات البريطانية المساعدة من زميلتها الفرنسية في عملية الإنقاذ.
بعيداً عن الكوميديا، تظهر الملكة طفلةً (فْرِيا ويلسن)، كابنةٍ للملك جورج السادس (الإنكليزي كولن فيرث)، في "خطاب الملك" (2010)، للبريطاني الأسترالي توم هووبر. أفلامٌ أخرى، بعضها مُصنّف كـ"باروديا"، أبرزها "المسدس العاري: من ملفات فرقة الشرطة" (1988) للأميركي ديفيد زوكر، و"أوستن باورز في غولدمامبر" (2002) للأميركي جاي روش.
فيهما، تؤدّي البريطانية جانيت تشارلز دور الملكة إليزابيث الثانية، من دون أنْ يكون الدور أساسياً، فحضورها عابرٌ، والأساسيّ فيهما لشخصيتين تتشابهان في كونهما عميلين أمنيين: الأول ملازم في الفرقة الخاصة في شرطة لوس أنجيليس، يُدعى فرانك دْرابِن (الكندي الأميركي ليسلي نيلسن)؛ والثاني "عميل خاص" بريطاني، وشخصية أوستن باورز (البريطاني الكندي مايك مايرز) معروفة بسخريتها من جيمس بوند، العميل البريطاني الأشهر في العالم (007) الذي يؤدّي دوره البريطاني الأميركي دانيال كريغ (سادس ممثل للشخصية نفسها) في 5 أفلام، وكريغ نفسه يظهر إلى جانب الملكة في مشهدٍ بصريّ، احتفالاً بافتتاح الدورة الـ30 للألعاب الأولمبية، في لندن (27 يوليو/تموز 2012): "مُضحكٌ جداً. مُضحكٌ جداً"، يصف كريغ تلك التجربة، في لقائين تلفزيونيين (16 فبراير/ شباط و5 مايو/أيار 2022) لبرنامج Late Show With Stephen Colbert، على شاشة المحطة الأميركية سي بي إس، مُضيفاً أنّ الملكة تروي أكثر من نكتةٍ: "آه كلا. أهذا هو الشخص الذي لا يضحك أبداً؟ حسناً"، ثم يروي شيئاً عن حيواناتها الأليفة وكلابها المشهورة (من نوع كورجي تحديداً): "لها خدمٌ يهتمّون بها. إنّها حيوانات أليفة للغاية".
أفلامٌ قليلة أخرى تُقدّمها في صُور مختلفة، ومسلسلات (بينها عائلة سمبسون) تُشارك فيها كشخصية قابلة لإعمال الخيال في تحديد ملامحها فنيًاً. رغم هذا، تبقى هلن ميرن أفضل من أدّى دوراً يتناولها في أسوأ لحظةٍ تاريخية.