مقالات غربية وعربية عدّة تتوقّف عند مسألة حرية التعبير، في كتابتها عن طعن سلمان رشدي (12 أغسطس/آب 2022)، في نيويورك، بعد سنين مديدة على إعلان فتوى الخميني بإهدار دمه (14 فبراير/شباط 1989)، بسبب "الآيات الشيطانية" (1988). المجلة الأسبوعية الفرنسية "لو كورييه أنترناسيونال" تُخصِّص، في عددها 1659 (18 ـ 24 أغسطس/آب 2022)، 3 صفحات عن الروائي البريطاني، تتضمّن مقالات ومقتطفات من مقالاتٍ مُترجمة من صحفٍ ومجلات أوروبية، أحد المشتركات بينها كامنٌ في أنّ الطعن، كالفتوى والحملات التحريضية على رشدي، يندرج في إطار الحرب على حرية التعبير.
في المسألة شيءٌ حقيقي، يُفترض به ألا يحول دون التنبّه إلى أمر آخر، غير حرية التعبير، يُسجّله سلمان رشدي، أكثر من مرّة، في "جوزف أنطون، سيرة ذاتية" (الطبعة الإنكليزية الأصلية صادرة عام 2012، والطبعة العربية صادرة عام 2021، بترجمة لأسامة إسبر، عن "منشورات الجمل")، بمفردة مختلفة تماماً، وإنْ تتوافق وتلك الحرية. فرشدي، في سرده مقتطفات من سيرته الحياتية، بدءاً من لحظة إبلاغه إعلان الفتوى، يُشدِّد على أنّ الحاصل معه حربٌ على حرية الخيال (أو حرية التخيّل)، وإنْ يذكر، بين حينٍ وآخر، حرية التعبير.
الحريتان متكاملتان. لكنّ حرية الخيال أكثر تحريضاً لمُكوّن أيديولوجي عقائدي ديني على صنع الفتوى، وما يُشبهها في تلك الحرب المستعرة ضد كتبٍ وتفكيرٍ واشتغالاتٍ وتأمّلات، تبغي إعمالاً للعقل، وحثّاً على اجتهادات عقلانيّة إزاء المسائل كلّها. الخيال غير مُرتبط بالأدب، رواية وقصصاً وشعراً، فقط؛ فالفنون برمّتها تحتاج إليه، والنقد، الصحافي والأكاديمي، يعثر فيهما، أحياناً، على مُعينٍ لفهم النصّ، المكتوب والبصري والسمعي، ومحاورته، تنقيباً وتفكيكاً ونقاشاً غير منتهٍ.
وإذ ترتكز الفنون والآداب، كالعلوم الإنسانية (وربما العلوم الطبيعية أيضاً، من خلال البحث والتحليل في مجالات علمية مختلفة، يحتاجان، البحث والتحليل، إلى شيءٍ من خيال يتجاوز المعطيات إلى ابتكار الجديد والمجدِّد)، على الخيال لإنجاز صنيعٍ، يتنوّع بتنوّع هواجس مُبتكرِه وأحلامه وتساؤلاته وقلقه وخيباته ومشاعره وأفراحه؛ فإنّ السينما تتفوّق عليها كلّها، لأنّ تشييد عمارتها الجمالية والدرامية والفنية مُحتاجٌ إلى فنون وآداب وعلوم إنسانية مختلفة، وهذا يعني اتّساع متطلّباتها، ما يدفعها إلى سبر أغوار ونفوس وحالات ومشاغل، بالاتّكاء على الخيال، في جزءٍ أساسيّ من صُنعتها.
تعبيرٌ لجورج لوكاس يُساهم في تأكيد أولوية الخيال وأهميته في السينما، إذ يذكر، بعد سنين طويلة على إنجازه أول فيلمٍ في سلسلة "حرب النجوم" (1977)، أنّ "تواضع" التقنيات حينها يحول دون تمكّنه من ترجمة "كلّ" ما يعتمل في خياله من صُور ولقطات ومرويات بصرية. هذا يُشبه قولاً لجايمس كاميرون، يتمثّل في أنّ التقنيات المتطوّرة، عند اشتغاله على "تايتانيك" (1997)، غير كافيةٍ لتحقيق ما يصبو إليه، بحثاً في/عن السفينة الأشهر في القرن الـ20. مثلان اثنان غير مُنتَقِصَين من أمثلة كثيرة، في صناعة السينما، وفي غيرها من فنون وآداب.
الفنون والآداب تُشبه السينما في اعتمادها على الخيال، وفي حاجتها، أحياناً، إلى فنون وآداب وعلوم إنسانية مختلفة. هذا يعني أنّ الخيال سابقٌ على التعبير، ومُمهِّد له، ومتكاملٌ معه في المراحل الأخيرة من ترجمته، الفنية أو الأدبية. التعبير وحده لن يتمكّن من البوح بما يرادُ منه في غياب الخيال، وإلاّ يُصبح التعبيرُ بياناً صادراً عن سلطة أو حزبٍ أو مليشيا أو طائفة أو جماعة أو قبيلة، وهذه كلّها غير مُحتاجة إلى خيال، لأنّها أكثر الجهات كرهاً له، لخوفها منه، ومن تأثيراته على أفرادٍ، فالخيال يُنجّي أفراداً من قبضة الموت التي تخنقهم في بيئاتهم تلك، ويدفعهم إلى خروجٍ عليها ومنها، وهذا انتقاصٌ من القبيلة وسلطتها، لن ترضخ له، فتُحاربه بعنفٍ وكرهٍ وتخوينٍ وقتلٍ.
الخيال، إذ يُفبرك صُوراً سينمائية، يتفوّق على الفنون والآداب في قدرته الساحرة على التأثير المُباشر في الوعي الفردي، من دون أن تتجاوز السينما حدود هذا التأثير، الذي (التأثير) يكتفي بتحريض فردٍ مهتمٍّ أو أكثر على إعمال العقل وتنمية المشاعر، بطرح أسئلة، والحثّ على البحث عن إجابات عنها. فالسينما، منذ ولادتها الرسمية عام 1895، غير معنيّة بالأبعد من العلاقة المباشرة بالفرد، رغم توقها إلى مجموعات كبيرة من المشاهدين/المشاهدات، التي تحتاج إليهم في الجانب الاقتصادي التجاري فيها.
القراءة تصنع تأثيراً كهذا، والفنون الأخرى تساهم في بلورة وعي ومعرفة وتساؤلات. لكنّ السينما ـ بما تملكه من مقوّمات مستلّة من ذاتها، ومن فنون وآداب وعلوم إنسانية، ومن تقنيات متطوّرة ـ أقدر وأسرع على ممارسة التأثير، بسحر صُورها، ومؤثّراتها البصرية والسمعية، واشتغالاتها الصناعية. هذه منبثقةٌ من خيال، يتمكّن من صُنع ذاك السحر وتلك المؤثّرات والاشتغالات، ليقول ويبوح ويكشف ويتساءل ويُحلِّل ويروي، من دون قيدٍ أو حدٍّ أو مُحرَّم. التأثير المقصود غير محصورٍ بإعمال العقل والتفكير والتأمّل، إذ يُمكنه التغاضي عن هذا كلّه، عبر أفلامٍ تُمجِّد أبطالاً، وبعضهم خارقٍ، وتقول إنّ أفعالاً من دون أخرى سمة حياةٍ وجوهرها، وهذا مهمّ في مناقشة مفهوم الخيال في صُنع الأفلام.
أيّ أنّ التأثير المنبثق من السينما غير محصورٍ في جانبٍ من دون آخر، سلباً وإيجاباً. هذا يصنع بهاءها ورونقها، وإن في أفلامٍ تجارية واستهلاكية وسطحية أيضاً. السينما، إذ تُمارس سحراً على أناسٍ مختلفي الأذواق والثقافات والتربية والمسالك والمفاهيم، تجمع في نتاجاتها أشكالاً مختلفة من التأثير، المنبثق أساساً من الخيال، الذي يُدافع سلمان رشدي، وآخرون أيضاً، عن حريته.
مَلَكة الخيال قادرة على ابتكارٍ حِرفيّ لنتاجٍ سينمائي. لكنّ الأهمّ في الخيال كامنٌ في إثارته نقاشاً، وفي تحصينه لتفكير وتأمّل إزاء جمودٍ وتقوقع، وفي بحثٍ دائمٍ عن جديدٍ في كلّ المُقدَّم إلى الفرد، في تاريخٍ حافلٍ بنصوص وتفاصيل وحكايات وشخصيات وحالات وانفعالات، وفي غير المُقدَّم أيضاً، والخيال يُساهم في صُنعه. الخيال يُشارك في قراءة/إعادة قراءة هذا كلّه، وفي ابتكار جديدٍ وتجديدي أيضاً، وإلاّ فالجمود فاعلٌ، والعزلة متسلّطة، والخراب، الروحي والنفسي والفكري والحياتي، طاغٍ وقاتلٍ.
بهذا، تتفوّق السينما على فنون وآداب وعلوم إنسانية، إذ تستمدّ من كلّ نوع منها ما تبغيه في إنجاح الخيال في وظيفته الأساسية: الابتكار والتجديد، والتحريض على إعمال العقل والتفكير، دائماً، من دون خوفٍ من مُتحجّراتٍ، ترفض الابتكار والتجديد والتحريض، وتحاربها بشراسة الخائف على سلطته/تسلّطه، الذي يجهد، بالوسائل كلّها، في منع انتزاعها منه.