استعادة تجربة "بيت إسعاد الطفولة" في لبنان، عبر لقاءات مباشرة مع عددٍ من نزلائه الأيتام، في "اثنا عشر سريراً" ("الجزيرة الوثائقية"، 2022، 100 دقيقة) لرين متري، غير مكتفيةٍ بكلامٍ يروي حكاية مكان وأفرادٍ وحالة عامة، بوقائعها المعلنة والمعيشة. كلامٌ كهذا يقوله 7 أشخاص يُقيمون في البيت زمن طفولة ومراهقة، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) وفي بعض أعوامها، على الأقل. لكنّه (الكلام)، باكتفاء بعضه بـ"توثيق تسجيلي" لمرحلة وأحداثٍ، يبقى شهادة عن حياة وعيش وعلاقات، سيُفكّكها كلامٌ آخر، مباشر أحياناً وغير مقصود أحياناً أخرى، يكشف شعوراً "يُفضِّل" كثيرون/كثيرات إخفاءه، لحساسيته أساساً، في بيئة تُقدِّس الشهادة، وترفع الشهداء إلى مصاف يُمنع المسّ بها، وهذا على حساب أبناء وبناتٍ، يخضعون للمفروض عليهم، غالباً، أو لتربيةٍ وسلوكٍ يُمارسَان عليهم/عليهنّ، فتكون النتيجة صمتاً وقهراً وتغييباً للشعور والتفكير.
البيئة فلسطينية، والبلد لبنان. هذا حاصلٌ في بيتٍ يُراد له أنْ "يُسعِد الطفولة" (لا الأطفال؟). تعابير قليلة وعابرة، ينطق بها البعض، تعكس شيئاً من رداءة وضعٍ، رغم ميلٍ واضح إلى "تمجيدٍ" للبيت، ولعمل ناسه إزاء أيتامٍ، هم أبناء شهداء وبناتهم. الوقائع التاريخية (بحث محمد العربيد) تشير إلى أنّ البيت موجودٌ أولاً في شارع بلس (بيروت)، عام 1954، وأنّ "الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني"، المؤسّس عام 1950 بفضل جهد وديعة قدّورة (اللبنانية المتزوّجة طبيباً فلسطينياً يُدعى أديب خرطبيل، بداية ثلاثينيات القرن الـ20، والمقيمان معاً في فلسطين حتى عام النكبة، 1948)، سيشتري "قطعة أرض" في منطقة سوق الغرب، وسيبدأ تنفيذ مشروع "بيت إسعاد الطفولة"، الذي يحظى بدعم أركان الدولة اللبنانية "المسيحيين والمسلمين"، عام 1955، وأنّ حجر الأساس موضوعٌ في 22 سبتمبر/أيلول 1960، برعاية رئيس الجمهورية فؤاد شهاب، وحضور مفتي فلسطين ورئيس "الهيئة العربية العليا" الحاج أمين الحسيني.
بدايةٌ تقول حدثاً، و"تؤكّد" واقعاً يظلّ موضع نقاشٍ في بلدٍ، يكشف عن كراهية/عداء بين أبنائه أولاً، وبينهم وبين الفلسطينيين ثانياً (وكلّ من هو غير لبناني لاحقاً)، وهذا نقيض واضح لكلام يُردَّد دائماً عن عيشٍ مسيحي إسلامي، وعن انفتاح على الفلسطيني وغير الفلسطيني، كما يقول بشار اليوسف، أحد أبناء البيت، عن البيت نفسه ومؤسّسيه والمشرفين/المشرفات عليه، والمُقيم حالياً في لاس فيغاس. هذه مسألة عابرة، غير مطروحة للنقاش في فيلمٍ، يوثِّق تجربة وديعة خرطبيل واتحادها النسائي و"بيت إسعاد الطفولة"، وأحوال أفرادٍ، تبدأ رين متري البحث عنهم عام 2021، رفقة محمد العربيد، الذي يُخبرها، عام 2012، عن المدرسة/البيت، وأبناء "شهداء الثورة الفلسطينية" وفرقتهم الفنية، التي يستمع إلى أغانيها عبر الإذاعة، في سبعينيات القرن الـ20.
في الدقائق الأولى لـ"اثنا عشر سريراً"، تظهر فرقة مؤلّفة من أطفال صغار، يرتدون زيّاً فلسطينياً، ويُغنّون لأمٍ ودموعٍ، ويسألون عن غياب أب يَعِد أولاده بهدايا العيد، من حيفا ويافا والخليل والقدس والقمر والشمس. أطفال يُغنون بملامح حزينة، فالمناسبة تستدعي حزناً وغمّاً وقلقاً، رغم أنّ الأب شهيدٌ من أجل بلدٍ وشعبٍ وقضية. بداية تقول بعض الحاصل لاحقاً، فروايات الشخصيات الـ7 تتضمّن إشارات إلى وقائع تُشعرهم بضيقٍ أو ضغطٍ. مشروع مبنيّ على تبرّعات، يُرسَل أبناء الشهداء لجلبها من أناسٍ يعطونهم "أوراقاً" (يكتشفون أنّها شيكات) ومالاً.
ذكريات تُروى، وحالات يُحَسّ بها، وأمور تحصل، وتفاصيل تتوزّع على يوميات الـ"بيت" والمُقيمين/المقيمات فيه، وخارجه أيضاً. عشية الحرب اللبنانية، وأعوامها الأولى تقريباً؛ ونزاعات في الاتحاد نفسه؛ وعلاقة أبناء الشهداء وبناتهم بالبيت وببعضهم البعض، وبالعاملين/العاملات فيه؛ حكاية عبد الله حداد، مؤلّف أغاني الفرقة وملحّنها، الذي له تأثير إيجابي كبير على أطفال تلك المرحلة. هذا كلّه تصوغه رين متري في متتاليات بصرية هادئة ومتلاحقة، مع تصويرٍ (لبنان: كريم غريب وراشيل عون ورين متري؛ رام الله: مهند ضحى وزودي أبو نجمة؛ لاس فيغاس: استفان ليتانغ؛ مالمو: ميشال لازارسيوك؛ أوسلو: أكسيل ديتريش) تتنوّع أشكاله، فحوارات كثيرة تُقال عبر تقنيات الكاميرا المحمولة وتطبيقات أخرى، لأنّ الراهن مختلف، والمسافات طويلة، ومقيمون/مقيمات في الخارج "يتجوّلون"، عبر تلك التقنيات والتطبيقات، في المبنى شبه المهدّم والفارغ، كأولئك الذين يأتون إليه، ويروون حكاياتهم فيه.
لقطات عدّة لأروقة مهجورة، وغرف مفتوحة على خارجٍ، تتسلّل منه رين متري لتُشير إلى حالةٍ لبنانية في زمن ماضٍ، أو لتكشف جمالية إطلالةٍ جغرافية على مدينةٍ (بيروت) معطوبة، أو لتُتيح متنفّساً قليلاً، فبعض المرويات ثقيل الوطأة لثقل عيشٍ وشعورٍ ضاغط وأهوال طفولة معطّلة ومراهَقة مجتزأة، رغم فواصل مختلفة من فرح وسفر و(شبه) سكينة. تُضيف متري صُوراً فوتوغرافية، تُلصقها على جدران أو أبوابٍ حديدية، كما تفعل في "لي قبور في هذه الأرض" (2014)، والصُور أساسية في توثيق سينمائي، لكونها مَعبرٌ إلى أمكنة وحالات ولحظات، يُفترض بها أنْ تحضر في سياق سردٍ، يمزج التأريخ بمشاعر، ويُدخل السياسي والاجتماعي والتاريخي بذاتٍ قلقة ومُتعَبة، وأحلامٍ معلّقة، وأحوالٍ مُقيمة في الذات والروح إلى الآن، رغم عدم الإفصاح عنها مباشرة أو مواربة لدى البعض.
البحث النظري والعملي يفضي إلى تركيبٍ سينمائي عماده، بعد التصوير طبعاً، توليفٌ تصنعه رين متري، مع استشارة ميشيل تيان (مونتاج إضافي: ساندرا فتّة). تركيب يُمهِّد للنصّ الأصلي (حكاية البيت ونزلائه) بمعطيات تاريخية، مدخلاً إياها في سياق مفتوح على الذات الفردية وعلاقتها بالبيت ونزلائه، وبنفسها أيضاً. "انتقادات" مبطّنة (أتكون مقصودة أم عفوية؟) ترد في كلامٍ عن حالةٍ (صابونة واحدة لعشرات الأطفال، ملابس غير متبدّلة، إلخ)، واضطراب وضع الاتحاد ينعكس على البيت ونزلائه.
الأفراد المختارون في "اثنا عشر سريراً"، المشارك في الدورة الـ18 (27 إبريل/نيسان ـ 7 مايو/أيار 2023) لمهرجان "شاشات الواقع" في بيروت (تنظيم "جمعية متروبوليس سينما"، بمشاركة "الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون)، المقيمون خارج لبنان، يجلسون في أمكنةٍ ثابتة لا تتغيّر، والكاميرا موجّهة إليهم/إليهنّ بشكل شبه ثابت، والآخرون يتجوّلون في المبنى المهجور، مستعيدين أنفسهم فيه، وقائلين أشياء كثيرة عن تلك الحياة.
غير أنّ عريفة عباس (رام الله) تختلف عن الجميع، في بوحٍ يطرح سؤالاً جوهرياً، عن معنى أنْ يكون المرء ابن/ابنة شهيد. غضبٌ تحاول ضبطه، وقهرٌ ترغب في إظهاره برويّة، وشعورٌ بغبن و غيابٍ قاتل لـ"الحب والحنان والمراعاة". ابنة شهيد تقول إنّها متأذيةٌ من الداخل، وتكتب إلى والدها معاتبة، والعتاب منبثقٌ من غضب وقهر: "أنتَ ضحّيتَ بنا. أنتَ غير عارفٍ ما الذي رأيناه بعدك. كم تعبنا". تقول إنّ 10 أعوام تمضيها في بيتٍ، يُفترض به إسعاد الطفولة (لا الأطفال؟)، تُعامَل فيه كرقم، لا كشخص متفرّد: "فرديّتُكِ عليكِ أنتِ أن تفرضيها، أنْ توجديها. أصلاً عليكِ أنْ تتعرّفي على حالكِ". ابنة شهيدٍ؟ هذا "شرف واعتزاز، صحيح". لكنّها غير قادرة على فصله عن "حالة اليُتم والحرمان" التي تعيشها: "كنتُ أتمنّى أن أعيش ظروفاً عادية وطبيعية جداً".
إزاء كلامٍ يروي وقائع ويُعبّر عن مشاعر، ويكتفي بالأخف قسوة واضطراباً، تقول عريفة عباس نقيضاً يعكس حقيقةً. تذهب إلى الأبعد من المخبّأ والمُوارب، وتُعرّي واقعاً غير مسؤولةٍ عنه وغير طالبة إياه. بجلوسها أمام الكاميرا، تظهر أقوى من تاريخٍ مُعلن، وأجمل من أنْ تصمت إزاء شعور وتفكير وعيش.
"اثنا عشر سريراً" مهمٌّ، لتوثيقه بيئة ومرحلة وذاكرة، وحكايات أشخاص، يرتضون بها فيروونها كما يرتأون أنّه الأفضل لهم/لهنّ سردها هكذا. لكنّ عريفة عباس ستهزّ هذا البناء برمّته، فالتساؤلات نواة حياة وتأمّل وعلاقات، والتهرّب منها تعطيل للتحرّر من وطأة مضمونها، وجموده وقسوته.
"اثنا عشر سريراً" يُتيح للشخصيات الـ7 مساحة بصرية لتعبيرٍ، تخترقه عريفة عباس بقولٍ، أميل إلى اعتباره مرآة أصدق وأكثر شفافية عن حالةٍ وشعور ونمط عيش، من أي قول آخر.