ازدادت مخاوف الاحتلال الإسرائيلي، وتحديداً أجهزته الإعلامية، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، من كل ما هو فلسطيني خصوصاً، وما هو عربي عموماً. وصار مستحيلاً أن نشاهد قناة عبرية تستقبل محللاً مختصاً بالشؤون العربية وناطقاً بها، كما كان يحصل قبل ذلك. وتُرجمت تلك المخاوف إلى استهداف الصحافيين بالقتل والاعتقال والتهجير.
استهداف الصحافيين هذا، لا حدود له، أي أنه يحدث في كل فلسطين، في الضفة الغربية والداخل المحتل، مثلما يحدث في قطاع غزة. كل مراسل يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي ولا ينقل ما يريده هذا الأخير؛ مصيره إما القتل أو الاعتقال. لا يتوانى الاحتلال، في كل مرة تدينه فيها المؤسسات الحقوقية والصحافية، عن وصف الصحافيين الفلسطينيين بـ"العملاء الإرهابيين الذين تجب معاملتهم على هذا النحو".
استهداف الصحافيين باعتداءات دموية
سجلت فلسطين في الخمسة أشهر الماضية، أعلى مؤشرات انتهاك الصحافة في العالم، وصارت "منطقة الصراع الأكثر دموية وخطورة بالنسبة للصحافيين في التاريخ الحديث"، إذ وثّق المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة استشهاد 133 صحافياً وصحافيةً، حتى تاريخ الثالث من مارس/آذار الحالي، فيما اعتُقل عشرات الصحافيين ونكّل بهم أمام أنظار العالم كله. جاء ذلك في وقت ساد فيه الاعتقاد بأن سنة 2022 هي "السنة الأكثر دموية بالنسبة للصحافيين"، في كل أنحاء العالم إثر مقتل 86 صحافياً بحسب تقرير حرية التعبير الصادر عن منظمة يونسكو حينها.
استهداف الصحافيين الممنهج للعمل الإعلامي في قطاع غزة، وتقييد الوصول إلى المعلومات، دفع أكثر من 55 صحافياً وأكثر من 30 مؤسسة إعلامية إلى التوقيع على رسالة طالبوا فيها حكومة الاحتلال بـ"احترام سلامة الصحافيين المحليين ودعم جهودهم" لأن "الحاجة إلى تقديم تقارير شاملة على الأرض عن الصراع أمر حتمي"، لذلك دعوا إلى "الإعلان عن سماح إسرائيل للصحافيين الدوليين بالوصول الآمن وغير المقيّد إلى غزة".
في الضفة الغربية، لفت نقيب الصحافيين الفلسطينيين، ناصر أبو بكر، في آخر تصريحاته، إلى حدوث مئات الانتهاكات وعشرات الاعتقالات بحق الصحافيين. تتراوح الانتهاكات بين اعتقالات واعتداءات جسدية وسلب معدات وإلغاء تصاريح تصوير في بعض الأماكن.
ومن أجل عرقلة التحركات في الضفة وتضييق الخناق على العمل الإعلامي، نصبَ الاحتلال نحو 707 حواجز في الضفة بعد 7 أكتوبر 2023، وهو بذلك قطع أوصال الضفة وجعل حركة الصحافيين شبه مستحيلة بين المناطق لتغطية الأحداث والانتهاكات.
ترهيب المستوطنين
لا يتوقف ترهيب الصحافيين، فقط، على جهاز رسمي أو جهة حكومية، وإنما تشارك جموع المستوطنين المسعورة في ذلك الأمر. وقد سجلت عدة حالات انهال فيها مستوطنون بالضرب على صحافيين بوجود جنود جيش الاحتلال وبحماية منهم أيضاً.
وفي تقريرها السنوي لعام 2023، أشارت نقابة الصحافيين الفلسطينيين إلى وجود عدد كبير من الإصابات في صفوف الصحافيين، ما تسبب بجروح بالغة وإعاقات ناجمة عن اختراق الرصاص الحي والمعدني والمطاطي لأجساد الصحافيين.
لقد كان استثناءً أن تذيع قناة "مكان" العبرية الناطقة باللغة العربية، تقريراً مصوراً مدته 10 دقائق، يستعرض الانتهاكات التي يتعرض لها الصحافيون في الأراضي المحتلة عام 1948. وعرض التقرير مقاطع فيديو لجنود وضباط وهم يضربون الصحافيين ويكسرون كاميراتهم.
كانت الحجة الأساسية التي حاول تقرير "مكان" الترويج لها خافياً الدوافع العنصرية وراء تلك الممارسات، هي أن "الجمهور اليهودي يشعر بأنه يتعرض لهجوم وتهديد، وعواطفه تدفعه للشك في كل عربي". ولكن بخلاف ذلك، يذهب أحد ضيوف التقرير إلى أن "حرية الصحافة مقرونة بالهوية القومية"؛ فإذا "كنت يهودياً نلت حرية الصحافة. بينما إذا كنت عربياً فليس لك حماية، ويتعاملون معك على أساس أنك عربي لا صحافي".
في النهاية، هناك تقارير تعترف بشرور المحتل وأخرى تدين مجازره، وتقارير تَقلق على سلامة الصحافيين وأخرى تحذّر من مخاطر ربما يواجهونها في الميدان، لكن لا فرق، كل ما يحصل هو أن بيانات الشجب والإدانة تعلو وتعلو على مكاتب المسؤولين ولا شيء يتغير.
ولأنها حرب على الحقيقة، سيستمر الاحتلال وعصابات المستوطنين في تكميم أفواه الصحافيين وحجبهم عن الحقائق مهما كانت جنسيتهم.