بعد عامين على خروجه من سجن صيدنايا، في مارس/آذار 2015 (كما يُكتب على الشاشة)، يُشاهَد حميد (آدم بيسا) في ستراسبور، عاملاً في البناء. لن يتأخّر انكشاف سبب وجوده في تلك المدينة الفرنسية: إنّه يبحث عن جلّاده. سوريّو المهجر القسري في فرنسا وسوريّاته يشكّون في كلّ "غريبٍ"، وإنْ يكن سوريّاً، يأتي إلى المخيّم، فعملاء النظام الأسديّ منتشرون في أمكنةٍ كثيرة يوجد فيها مهجّرون ومهجّرات من بلدهم المنكوب.
البحث الدؤوب يصنع تشويقاً بصرياً، إلى حدّ ما، يُغلَّف بتوثيقٍ يُضاف إليه اشتغال نفسي غير مُسطّح وغير مباشر. فالسجين الخارج من جحيم سجنه مُصابٌ بأعطابٍ، غير مُقتَصَرة على الجسد، وهذا يُظهره التونسي بيسا بمصداقيةٍ، لعلّه بفضلها يُمنح "نجمة الجونة لأفضل ممثل"، عن دوره في "الأشباح" (2024) للفرنسي جوناتان مييه، في الدورة السابعة (24 أكتوبر/ تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان الجونة السينمائي". والفيلم، الفائز بـ"نجمة الجونة الذهبية للفيلم الروائي" في الدورة نفسها لـ"مهرجان الجونة"، يفتتح النسخة الـ63 لـ"أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ".
إذاً، هناك منظّمة سرّية سوريّة تُطارد جلّادي الحرب الأسديّة على شعبٍ وبلدٍ واجتماع، يفرّون من البلد أو يطاردون الخارجين والخارجات منه. وهناك ضحايا هؤلاء الجلّادين، ومنهم غير سوريّ أيضاً ـ كالشابّة الفرنسية نينا (النمساوية جوليا فرانتز ريختر)، التي يُقتَل زوجها في الحرب الأسديّة ـ يجهدون في العثور على مُعذّبيهم، وجمع أدلّة تُدينهم، تمهيداً لتقديمهم إلى إحدى العدالتين: المحكمة الدولية، أو محكمة المنظّمة.
حميد يريد انتقاماً لنفسه من جلّاده، الذي "يعثر" عليه في المدينة الفرنسية، رغم أنّ التأكّد صعبٌ، لكنّه غير مستحيل. رحلة التأكّد منضوية على مطاردة وتعارف يشي (التعارف) بلعبةٍ واقعية وسينمائية تتمثّل في العلاقة الملتبسة والمعقّدة بين جلّاد (هنا، الجلّاد "يوحي" بعدم معرفته ضحيته) وضحية، لكنّها (العلاقة)، في أول روائي طويل لمييه، غير ماثلةٍ كلّياً، لأنّ الأهمّ منصبٌّ على ذاك الثأر الذي يبدو اغتسالاً أو تطهّراً، أو حِداداً على ذاتٍ وآخرين، لنجاةٍ من موتٍ في حياة مستمرّة. وفي رحلة الثأر، يوثَّق الجُرمُ الأسديّ في سياق سينمائي متماسك وذي مصداقية بصرية وأخلاقية وجمالية.
حميد مُصابٌ بعطبٍ آخر: زوجة وابنة تُقتلان في الحرب السورية، زمن اعتقاله وتعذيبه. "النجاة"، المنشودة في لاوعيه ربما، تحتاج إلى دفنٍ رمزيّ لفقيدتين، ستكونان أساسيتين أيضاً في مُطاردةٍ وبحث وانتقام. والدته (شفيقة الطلّ، أردنية من أصل فلسطيني) لاجئة في مخيّم سوري في لبنان (البقاع)، رغم قولها، في اتصال "سكايب" معه، إنّها في بيروت (مشاهد المخيم مُصوّرة في الأردن). أمٌّ مكترثةٌ جداً به، تريده في أمان، وتحثّه على العيش في برلين (يوهمها أنّه هناك)، وتفرح بخفرٍ عندما يُخبرها بلقائه شابّة سوريّة تُدعى يارا (السوريّة هالة رجب)، رغم أنْ لا مشاعر حبّ بينهما، بل مجرّد معرفة وشيءٍ من اهتمام.
في 105 دقائق، يُقدِّم جوناتان مييه شهادة بصرية عن جُرمٍ أسديّ بحقّ أفرادٍ. التوثيق يحضر، وحضوره متداخلٌ في سياقٍ يروي حكاية (سيناريو مييه وفلورنس روشا)، ويلتقط أعطاب ذوات وأرواح ونفوس وأجسادٍ، ويصنع من شهادات أسرى ناجين من الـ"غولاغ" الأسديّ امتداداً لنصٍّ، يقول واقعاً أو بعضه، ويكشف جُرماً أو شيئاً منه.
وإذْ يُؤدّي آدم بيسا دوراً مُثقلاً بقهرٍ وألمٍ وغضب، إلى جهدٍ يُبذَل لثأر لعلّه يكون شفاءً أو جزءاً منه، فإنّ الفلسطيني توفيق برهوم يمنح شخصية حِرفز (أيكون هو الجلّاد سامي حنا، المطلوب فضحه ومحاكمته؟) سمات، نفسية وجسدية وانفعالية، تشي بأنّها مُلك جلّاد، رغم نوعٍ من براءة طفولية في ملامح وجه، بينما حركة الجسد وطريقة المشي ومظهر النظرات، تُعيد المشهد كلّه إلى خانة الجلّاد، وإنْ مواربةً، أو إيهاماً.
كلامٌ يُقال بينهما، واللقاءات قليلة أصلاً، يعكس تفكيراً واقعياً، رغم تناقضاتٍ فيه. فتساؤلات مبطّنة تتعلّق بثلاثية ماضٍ وحاضر ومسقبل، وبالحاصل في سورية، وكيفية مقاربته، ومن يُشاهد ويسمع يُدرك أنّ أحد الطرفين ضحية (وهذا مؤكّد)، وأنّ ثانيهما "ربما" يكون جلّاداً (المُشاهدة تُقدّم إجابة)، ما يُنبِّه إلى وقائع وحياةٍ وتفاصيل، تكاد تتشابه في أمكنةٍ عدّة، تعيش حرباً وتفكّكاً وانكساراً.