منذ لحظة إطلاقها، وعلى مدار ثلاثة أسابيع، بقيت أغنية الفنان اللبناني وائل كفوري، "كلنا مننجر"، الأكثر استماعًا على منصة يوتيوب. تمثل الأغنية التي كتبها علي المولى، ولحنها كل من رامي شلهوب وجمال ياسين، نسخة أصلية لشارة المسلسل اللبناني "داون تاون"، لمنتجه رائد سنان، الذي انتهى عرضه قبل نحو شهرين.
ارتباط الأغنية بالمسلسل جاء شكليًا أمام النجاح الذي حققته مقابل فشل المسلسل الذي لم يلق له صدىً كبيرًا لدى الجمهور. يعد عنصر النجاح، بطبيعة الحال، أمرًا غير مشروط بالتبادل، إلا أن أغاني التترات أصبحت منافسًا للأعمال الدرامية التي تنطلق منها في السنوات الأخيرة. فإن كان هناك فرصة لنجاح المسلسل؛ فهذا سيعزز من انتشار الأغنية بشكل أوسع. وإن كان العكس، فللأغنية نصيب من شهرةٍ ونجاحٍ لا يتأثران غالبًا بفشل الدراما التلفزيونية. فأدوات الأغنية وعناصرها أقرب للجمهور من دراما مخصصة للعرض لا الاستماع.
أغاني الشارات مهمتها، قبل أن تصبح سلعة تجارية في الأسواق الغنائية، تضمين روح العمل ورسالته ومحاكاته بما يفيد المعنى الدرامي وغايته. غير أن تجارب سابقة برزت في سياق علاقة المنتج السينمائي والتلفزيوني بالأغاني في الفترة الواقعة بين سبعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، لا تتشابه من حيث البنية والتركيب والتأثير مع ما نسمعه ونتذوقه في أيامنا هذه.
لغة التوثيق بين الصورة والأغنية في تلك الفترة، كان لها نطاق واسع مرتبط بشقين: أولهما حامل اجتماعي وسياسي واقتصادي، يبنى عليه فعل درامي. وثانيهما، سوق يفتح نتاج تجاربه بما يناسب مزاج الإنسان أو الفرد، وتفاعله المبني على الشق الأول. فتعرية المجتمع وكشف علله، وانعكاس الواقع الإنساني بأعرافه وتقاليده وتناقضاته، نجده في أغنية "بانو بانو" التي غنتها الراحلة سعاد حسني في فيلم "شفيقة ومتولي" عام 1978. واحدة من التجارب المهمة في ذاكرة المشاهد/ المستمع العربي، لما لها من أطر اجتماعية تخاطب المزاج العربي، وتدفعه إلى التماهي معها. مضمون الأغنية، وإن لم تكن مخصصة لتكون شارة الفيلم، استطاعت جذب المستمع قبل المشاهد، والعكس صحيح، رغم تفاوت مساحة السجالات النقدية بين نخب مثقفة وشارع عربي هجين الرأي تائه بين أصالة وحداثة من جهة، وبين تحرر واستبداد من جهة أخرى، في ذلك الوقت.
كذلك أغاني الملحن المصري عمار الشريعي في فيلم "البريء" (1986)، لمخرجه عاطف الطيب، التي تمنحنا مستوى آخر من التأطير الاجتماعي والسياسي، بحلة عاطفية عالية الشجن، تم اقتطافها من قصائد الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي. وقد حمل الفيلم، الذي أدى دور البطولة فيه كل من أحمد زكي ومحمود عبد العزيز وممدوح عبد العليم، ثلاث قصائد مغناة، هي "يا قبضتي" و"محبوس يا طير الحق" و"الدم اللي في إيدينا"، عبرت جميعها عن لهجة قاسية بدءًا من نقد سلوك الإنسان نفسه، وصولًا إلى نقد السياسة الداخلية لمصر، ومن ثم إعلاء كلمة الحرية في وجه السلطات العسكرية والسياسية.
قد لا تختلف أدوات الخطاب في مجال الأغنية العربية بين سينما ودراما تلفزيونية، ولكن تحريرها من النصوص في مقابل ترجمتها ونقدها تاريخيًا واجتماعيًا، ثم مقارنتها مع الأعمال المعاصرة يحتاج إلى متابعة تحليلية تتخللها مكاشفة للتطور الملحوظ لشكل (الأغنية الدرامية) بين الماضي والحاضر.
إلا أن هذا لا يلغي متعةً وبهجةً طاغيتين، كنا وما زلنا نلمسهما في أغاني العمل السينمائي أكثر من العمل التلفزيوني. إذ لم نعتد على الشاشة الصغيرة أن تقدم أغاني خالدة في الذاكرة مثل أغنية نجاح الموجي الشهيرة، "سلملنا بقى عالتروماي"، التي غناها في فيلم "أيام الغضب" عام 1989 بجوار الفنان الراحل نور الشريف. وأغنية "كامننا" لمحمد هنيدي ومحمد فؤاد في فيلم "إسماعيلية رايح جاي" (1997)، وكذلك أغنية "يا أييا" التي غناها هنيدي أيضًا في فيلم "همام في أمستردام" عام 1999.
الفارق بين نماذج تلك الفترة، وما نتذوقه اليوم، هو فارق موضوعي أكثر من كونه شكلياً، ونستطيع ترجمة آثاره عبر سياقين؛ الأول مرتبط بالمناخ الإنتاجي، والثاني في الذوق العام. وكلا السياقين يتقاطعان تاريخيًا بعامل التجربة والتطور، ما دفع إلى تقلص وتراجع الأغنية السينمائية على حساب التترات الدارجة في الشاشة الصغيرة، وحصر الخطاب العام في دائرة الإنتاج بعد تهميشٍ واضح للقضايا المجتمعية والإنسانية الهامة لغايات ربحية ونفعية.