بعد عامين على تحقيقه "أرزة تشرين" (2020)، يُقدِّم سليم صعب وثائقياً جديداً له بعنوان "الأمل المسموم" (إنتاج لبناني فرنسي، 42 دقيقة، 2022). مقاربتان بصريتان لحدثين لبنانيين، يختلف أحدهما عن الآخر، قليلاً، في اليوميّ والاجتماعي والحياتي، فالأول معنيٌّ مباشرة بـ"انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، المعطوبة لاحقاً لأسبابٍ، لن يتحمّل النظام الحاكم وحده مسؤولية عطبها، رغم إجرامه متنوّع الأشكال بها؛ والثاني ينبثق من تلك الانتفاضة، بحثاً في معنى الأمل بالنسبة إلى شابات يعملن في فنون مختلفة، وإحداهنّ عالِمة نفسية.
الانتفاضة غير طاغيةٍ على "الأمل المسموم"، لأنّ التفجير المزدوج لمرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020) منطَلَقٌ لذاك البحث، الذي يريده سليم صعب من دون تصنّع أو تشاوفٍ، فهو مُنسحبٌ كلّياً من المشهد، تاركاً الكاميرا، بما فيها من تساؤلاته وانفعالاته ورغباته، في تواصل مباشر مع الشابات اللواتي يروين شيئاً من المسافة الفاصلة بين "أمل" انتفاضة و"مَقتلة" تفجير مزدوج. هذا أسلوبٌ يعتمده صعب (المُصوّر والمنتج أيضاً) في "أرزة أكتوبر"، فانسحابه الصامت إلى وراء الكاميرا تأكيدٌ على أولوية القول، المازج وعياً بمعرفةٍ وشعور لدى الشابات، والقول مُنفلش في أحوال بلدٍ واجتماعٍ ونفوسٍ.
كما في "أرزة أكتوبر"، تذهب شابات عديدات في "الأمل المسموم" إلى شيءٍ من المبالغة في تحليل واقعٍ وشعور، يتمثّل بانتفاضةٍ معطّلة، وبنتائجها المحطِّمة كلَّ أمل في قيامة أو خلاصٍ. التشبثّ بالأمل مشوبٌ بمثاليةٍ، يُفترض به (الأمل)، إنْ يكن موجوداً فعلياً في نفوس وعقول، أنْ يُعيد إحياء ذاك المشروع التمرّدي على نظامٍ فاسدٍ وناهبٍ وقاتل، والتفجير المزدوج لمرفأ بيروت وللمدينة معاً، وتحديداً كيفية تصرّف أقطاب النظام إزاءه، كفيلٌ بإشعال النار في هذا النظام، وفي أركانه. إنّه، فعلاً، أمل مسموم، والسُمّ هنا ربما يُفسَّر إيجابياً، بالنسبة إلى متمسّكين/متمسّكات به، رغم أنّ كلّ الحاصل يومياً، منذ "انتفاضة 17 أكتوبر" على الأقلّ، دليلٌ على أنّ السُمّ هذا متأتٍ من انفضاض الناس عن المطالبة المشروعة بحقوقٍ مسلوبة منهم.
لا جديد في تركيبة "الأمل المسموم". كأنّ سليم صعب مُكتفٍ بتسجيل ما يُقال أمام الكاميرا، لاصقاً عدستها، أحياناً، بوجوه شابّة، إلى درجة غير محتملة. هذا جزءٌ من لعبة بصرية يُريدها صعب، الذي يُسمع صوته في الفقرة الأخيرة من فيلمه، في لقائه مع والده، الناقد السينمائي وليد شميط. لقاءٌ يجمع بعض الذاتي بشيءٍ من حكاية بيروت قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، وفي مسارها لـ 15 عاماً، وفي اللاحق على نهايتها المزعومة، وعلى أكذوبة السلم الأهلي، الهشّ والناقص.
لقاء وليد شميط يُنهي "الأمل المسموم" (يُعرض مساء اليوم، 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في "نادي السينما" التابع لـ"معهد الدراسات المسرحية والسمعية البصرية" في "جامعة القديس يوسف" في بيروت) بكلامٍ يتوه، قليلاً، بين حلمِ زمن ماضٍ، بكلّ ما فيه من جمال وحماسة وعيشٍ وأوهامٍ أيضاً، وراهنٍ يتخبّط في آلامٍ وتمزّقات وخرابٍ وانعدام أفق. كلامه انعكاسٌ لتبدّل حاصل في سيرة بيروت، بلغة مبسّطة غير خاليةٍ من انفعال مُضمر إزاء قسوة التبدّل. كلامٌ يأتي في ختام فيلمٍ، يُسجِّل مشاعر شابات وتفكيرهنّ إزاء واقعٍ محطَّم ومهترئ، وإزاء بلدٍ مكسور، ومعظمهنّ يتمسّكن، رغم هذا، بأملٍ يلتبس وصفه: "مسموم". فالسُمّ يعني، أحياناً، إدماناً، والإدمان قاتل، والأمل اللبناني إدمانٌ قاتل على لا شيء.
لقطاتٌ عدّة طويلةٌ، قياساً إلى ما تتضمّنه من معطى واقعي لحالة وانفعال. إحداها تلتقط صُور قتلى التفجير المزدوج في مرفأ بيروت، بحركة هادئة أقرب إلى البُطء، كمن يؤكّد أنّ قتلى أعنف جريمة حاصلة في البلد باقون في ذاكرة فردية، على الأقلّ. لقطة واحدة توثِّق، مجدّداً، فعلاً جُرمياً، عبر تصوير وجوه القتلى وتثبيت صوُرهم في ذاكرةٍ، يُفترض بها أنْ تبقى حيّة، رغم كلّ شيء، وغصباً عن كلّ شيء وكلّ أحد متورّط بالجريمة تلك.
فنياً، يُلبّي "الأمل المسموم" شرطَه التسجيلي، من دون فذلكةٍ، مكتفياً بتوثيق شهادات شاباتٍ إزاء واقعٍ لبناني، يمتدّ من حلم انتفاضةٍ مكسورة وخائبة، إلى جريمةٍ، رغم دوّيها الأعنف من كل جُرمٍ لبناني، غير متمكّنة من تحريضٍ مطلوب على "ثورة" فعلية.
لعلّها، حقيقةً، "ثورة مسمومة"، إلى حدّ أنّ السُمّ، الذي فيها وفي البلد والناس، قاتلٌ لها وله ولهم.