تربط المخيلة الشعبية بين الثراء والاكتئاب أو القلق، على اعتبارهما من أمراض الأثرياء الشائعة في دول شمال أوروبا الثرية حيث مستويات الرفاهية المرتفعة. لكن هذه الفكرة خاطئة تماماً، بحسب نتائج مراجعة جديدة أعدها فريق بحثي متعدد التخصصات.
في الدراسة الجديدة ينفي الباحثون هذا الارتباط الشرطي بين الثراء والاكتئاب والقلق، بل على العكس، يعتقد المؤلفون أن عبء أمراض الصحة النفسية الشائعة يقع على عاتق الفقراء بشكل أكبر بكثير من الأثرياء.
اعتمدت الدراسة على فحص الأدلة المتراكمة متعددة التخصصات التي تثبت وجود علاقة سببية ثنائية الاتجاه بين الفقر والأمراض العقلية الأكثر شيوعاً، مثل الاكتئاب والقلق، خاصة في ظل جائحة فيروس كورونا.
يرى المؤلفون في المراجعة التي نشرت الجمعة 11 ديسمبر/كانون الأول في مجلة "ساينس" أن فهم الآليات الكامنة وراء هذه الآثار السببية أمر بالغ الأهمية لتطوير سياسات فعالة تهدف إلى تحسين الرفاه النفسي والحد من الفقر. كما أن الاستثمار في الصحة النفسية يحسن النتائج الاقتصادية، وبدورها، فإن السياسات التي تحسن الرفاهية الاقتصادية تحسن كذلك الصحة النفسية.
يأتي ذلك بعدما أظهرت الدراسات الصادرة في الأشهر القليلة الماضية زيادات مقلقة للغاية في معدلات الاكتئاب والقلق والتوتر.
"بالطبع، من المفهوم أن المخاوف الصحية والصدمات الشخصية والعزلة الاجتماعية التي أحدثها الوباء ستؤدي إلى تفاقم الصحة العقلية. لكنها مدفوعة أيضا بالآثار الاقتصادية للوباء" يقول المؤلفون في رد على استفسارات "العربي الجديد" عبر البريد الإلكتروني.
أظهرت الدراسات الصادرة في الأشهر القليلة الماضية زيادات مقلقة للغاية في معدلات الاكتئاب والقلق والتوتر
تظهر البيانات أن العمال ذوي الأجور المنخفضة هم الأكثر عرضة للمعاناة المالية بسبب الجائحة، في بلدان مثل الولايات المتحدة والهند. ومع غياب الدولة التي تقدم دعماً مالياً قوياً للأسر في مثل هذه البلدان، يصاب الفقراء بكارثة ثلاثية: كورونا، وضعف الصحة النفسية، والمعاناة الاقتصادية. والأخيران يمكن أن يعزز كل منهما الآخر.
ويوضح أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، والباحث المشارك في الدراسة غوتام راو، أن النتائج تنطبق أيضا على دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ تظهر البيانات أن جميع بلدان شرق المتوسط تقريبا تعاني من عبء كبير من اضطرابات الصحة النفسية -معظمها الاكتئاب والقلق- مقارنة بالمتوسطات العالمية.
ويتابع راو في تصريح لـ"العربي الجديد" أن دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تنفق القليل جداً على توفير الرعاية النفسية لشعوبها.
تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في فقر غالباً ما يتأثرون بأمراض الصحة العقلية. وبالمثل، فإن أولئك الذين يعانون من الاكتئاب والقلق هم أكثر عرضة لمواجهة تحديات اقتصادية أكبر بسبب فقدان العمل والدخل، ما يؤدي إلى الفقر.
من جهته يقول الأستاذ في كلية الصحة العامة في جامعة هارفارد فيكرام باتل، وهو باحث مشارك في الدراسة، إن الرفاه العقلي والاقتصادي مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بحيث يؤدي تحسين الرفاه الاقتصادي للشخص سواء من خلال التحويلات النقدية أو التأمين الصحي، إلى تقليل مخاطر القلق والاكتئاب. وبالمثل، فإن تحسين الصحة العقلية للشخص -من خلال العلاج النفسي على سبيل المثال، له فوائد اقتصادية، فهو يزيد من فرص العمل والأرباح.
يشير الباحثون إلى أن الدليل الأكثر إقناعاً على أن الفقر هو أحد مسببات الأمراض العقلية يأتي من التجارب العشوائية للتحويلات النقدية وغيرها من برامج مكافحة الفقر. في هذه التجارب، يتم منح الأشخاص الذين يتم اختيارهم عشوائيا مبالغ نقدية كبيرة، أو أصولاً قيمة (مثل الماعز).
في عدد من البلدان والبيئات المختلفة، وجدت الدراسات أن الأشخاص الذين تلقوا هذه التحويلات والإعانات، تحسنت صحتهم النفسية بعد شهور أو سنوات، أكثر من أولئك الذين لم يتلقوا نفس الإعانات. وهو ما يجعل العلماء على ثقة من أن هذا التأثير الإيجابي هو تأثير سببي لعملية التحويل المالي، وليس بسبب عامل آخر يجعل بعض الأشخاص أكثر ثراء وأحسن صحة نفسية.
يشرح "باتل" في تصريح لـ"العربي الجديد" أن فهم الروابط بين الفقر وقضايا الصحة النفسية مهم لتصميم سياسات أكثر فاعلية لتحسين الصحة النفسية والحد من الفقر، نظرا للارتباط الوثيق بين الفقر والصحة النفسية. لذلك يجب أن تعالج السياسات هاتين القضيتين معا بدلا من كل منهما على حدة.
"لدينا أدلة على أن ظروف الحياة المبكرة ــ الفقر الذي يعاني منه الأطفال قبل أو بعد ولادتهم ــ يمكن أن يؤثر بشدة على الصحة العقلية لهم عند البلوغ. وهذا يشكل حجة قوية لتقديم الدعم المالي للحوامل ومقدمي الرعاية للأطفال الصغار" يضيف الباحث.
لم تحظ الصحة النفسية ككل باهتمام كبير ــ حتى وقت قريب ــ في العديد من البلدان منخفضة أو متوسطة الدخل. ولم تفسح أكثر الأبحاث الاقتصادية مجالاً كبيراً للصحة العقلية. قد يكون أحد أسباب ذلك هو أن قياس الصحة العقلية كان أصعب من قياس الدخل أو الاستهلاك.
كما تستثمر العديد من البلدان أقل بكثير في رعاية الصحة العقلية مقارنة بنفقاتها على الصحة البدنية، رغم أن المرض العقلي يشكل عبئا أكبر من المرض البدني.
ويعتقد المؤلفون أن أزمات الصحة العامة مثل جائحة كورونا تؤثر بشكل فريد على الفقراء، لذلك فإن زيادة الاستثمار في مجال الصحة العقلية أصبحت حاجة ملحة للغاية الآن. ويجب تكون زيادة الإنفاق على رعاية الصحة النفسية وسد فجوات العلاج الهائلة أولوية رئيسية لدى الحكومات، لما ستعود به من فوائد نفسية، واقتصادية.