الثورة السورية على الشاشة: بعض لحظات البهجة

24 ديسمبر 2024
من فيلم "يوم أضعت ظلي" لسؤدد كعدان (IMDb)
+ الخط -
اظهر الملخص
- تواجه السينما تحديات في توثيق الثورة السورية بسبب تعقيداتها، حيث تتفاوت جودة الأفلام المنتجة. بعض الأفلام تبرز في التعبير الدرامي مثل "عن الآباء والأبناء" لطلال ديركي، بينما يعاني البعض الآخر من ضعف فني.

- تبرز أفلام مثل "نزوح" و"الكهف" دور المرأة في الثورة السورية، حيث تُظهر تحديات النساء في مجتمع ذكوري، مع تسليط الضوء على جهودهن في مواجهة الحرب.

- توثق أفلام مثل "آخر الرجال في حلب" اللحظات الإنسانية والبهجة، مما يُظهر الجانب الإنساني للمقاومة ويكمل فصولاً مفقودة من تاريخ الثورة.

يقيني بأنّه لا يُوجد فيلمٌ قادر على قول كلّ شيء، إلا نادراً. حين أفكّر في السينما، ومدى قدرتها على توثيق اللحظة والتعبير عن الإشكالية السورية بجميع تعقيداتها وارتباك مشهديّتها، أنظر إلى الأمر من زاوية البحث العلمي، الذي يلزمه التسلّح بالموضوعية، وتنوّع المراجع الفيلمية. أقصد أنّه إذا أردنا صنع فيلمٍ طويل مكتمل الأركان، وربما مُتعدّد الأجزاء، عن الثورة السورية، سنضطرّ حتماً إلى الاستعانة بلقطات ومشاهد عدّة من الأفلام المُنتجة عنها، في الداخل والخارج، سينمائية أو متلفزة، وثائقية أو روائية.
هناك عشرات الأفلام، بعضها سوري الإنتاج، والآخر حصل على تمويل/دعم أجنبي: المستوى الفني/الجمالي لبعضها منخفض أو بسيط أو سطحي أو ساذج، كالروائي "نزوح" (2022) لسؤدد كعدان. بعضها الآخر متسرّع، أو غاب عنه التماسك والتناغم في البناء الدرامي الموضوعي، أو مُشوّش بسبب كثرة الأحداث وتلاحقها، وما خلّفاه من حيرة أحياناً، بسبب القمع والعنف، ثم العنف المضاد، واندلاع حرب أهلية، واشتباك أطراف دولية واضحة، بينما ظلّت أطرافٌ أخرى تعمل سرّاً، أو تدفع بمقاتلين إلى تأجيج الصراع في الخفاء.

فسيفساء عمل أكبر

حتى الأفلام التي بدت معالجتها الفكرية مثيرة للحنق والغضب، وضد أخلاقيات المهنة، كـ"عن الآباء والأبناء" (2017) لطلال ديركي، لا بُدّ من تضمّنها لقطات تُشكّل جزءاً من فسيفساء عمل سينمائي أكبر وأشمل عن الثورة السورية، الممتدّة لنحو 13 عاماً. ففي تقديري، في كلّ فيلمٍ، خاصة الوثائقيات، عشرات اللقطات المُهمّة، التي تدبّ فيها الحياة مُجدّداً إذا وُظِّفت بمهارة وحنكة مع مخرج مبدع في شريط سينمائي جديد.
الفيلم السابق، وعامة أفلام ديركي، ومنها "العودة إلى حمص" (2013)، تؤكّد امتلاكه أدواته السينمائية، وقدرته على التعبير بتأثير درامي، رغم أنّها وثائقيّة، لمعرفته متى يبدأ الحكاية، ويُنمّيها تدريجياً، وصولاً إلى الذروة، ثم يسير باتّجاه الحلّ أو النهاية. ورغم أنّه في "عن الآباء والأبناء" يُصوّر عائلة جهاديين منتمين إلى القاعدة أو جبهة النصرة، فإنّهم لا يظهرون أشراراً أو شياطين كلّ الوقت، بل علاقة الأب أبو أسامة بأبنائه: أب/قاتل وإرهابي لا يرحم، يصير تلقائياً إنساناً رقيقاً، يمتلك عاطفة قوية إزاء أبنائه، ويُصبح هشّاً معهم.
هذا الفيلم مُزعجٌ جداً بسبب الخديعة والكذب اللذين تسلّح بهما ديركي بزعمه أنّه جهادي ليُصوّر مادته في أكثر من عامين، ولأنّنا بتعاطفنا مع الصغار الأبرياء نُدرك، بتدريباتهم على القتال وإعدادهم المتفجّرات يدوياً في المنزل، أنّهم سيكبرون ويصيرون قتلة انتحاريين. كما يكشف، بلمحة سريعة من دون تفصيل، جذور/تاريخ هذه العائلة التي تعمل بالفلاحة في قرية سورية، ينتمي أغلب سكّانها إلى الصوفيين: أهذا معقول؟ مِنَ الصوفية إلى تنظيم القاعدة؟ الصوفية فرقة إسلامية تنأى بنفسها عن الانشغال بالسياسة، لكنّ النظام السوري تسبّب في تحويلهم إلى جهاديين: كيف؟ هذا لم يقله الفيلم، الذي ألمح إلى أنّ النظام استفاد منهم بإطلاق سراحهم لنهش الثورة. أليس هذا ما فعله آخرون في بلاد ثائرة لكسر الثوّار وتفريقهم؟ هذه إحدى زوايا النقاش في الحديث عن الأقليات العرقية والدينية.
حين اندلعت الثورة السورية، كان الأمر مذهلاً ومُفاجئاً لكثيرين، فالسوريون أساساً مشهورون بأنّهم مُسالمون. الدهشة تزول مع الفهم ومعرفة أجوبة مُقنعة في "النُذُر - حكاية ثورة" (2018، إنتاج "تلفزيون سوريا") لهشام الزعوقي، إذْ نُدرك كيف تحوّلت مملكة الصمت إلى انتفاضة سلمية لم تعرف الاستسلام، وكيف نجح الشعب السوري في خلع الصمت عنه، وكيف صار جاهزاً لكلّ الاحتمالات. يُفسّر أيضاً كيف كان الهتاف مخنوقاً في البداية، وكيف جرت الولادة الجديدة، وكيف ألهمتهم ثورتا تونس ومصر، خاصة مع تنحّي المصري حسني مبارك، فهذا خلق شعوراً لدى السوريين بأنّهم اكتشفوا أنفسهم، وأنّ سورية أصبحت جاهزة.
يتتّبع فيلم الزعوقي بداية الثورة وكيفية انطلاقتها ومواصلة الطريق، مروراً باعتصام 16 مارس/ آذار، وتفاصيل وأسرار متظاهرين مُضربين عن الطعام تضامناً مع المعتقلين، وعن امرأة مسحولة من رجال النظام، مع تأكيد أنّ الاعتقال والضرب ليسا عشوائيَّين، بل وفقاً لخطة أمنية دقيقة. صحيحٌ أنّ "النُّذُر" يرتكز على شهادات ناشطين مدنيّين وصحافيين وباحثين سياسيين، وأنّه في بعض هذه اللقاءات صُوِّر الضيوف جالسين من دون حركة، في وضعيّة أقرب إلى الأفلام التلفزيونية. مع ذلك، هذا لا يُشغل أبداً عن الاستماع إلى الشهادات، لأنّ الحكي مليءٌ بلقطات بصرية متخيّلة مليئة بالحيوية والإنسانية، كأنّ المُشاهدين يتماهون مع الشعور الداخلي للشخصيات.
كثرة الأحداث وزخمها يُنسيان بعضها، فتسقط أحياناً أحداث من الذاكرة عمداً حماية للذات. هذه الأفلام بتوثيقها بعض جوانب ما حدث، مهما كان مستواها الفني غير جيد، صنعت أرشيفاً خطراً يحفظ ذاكرة هؤلاء الشاب والشابات، ويكون المكافأة الوحيدة للّذين استشهدوا في النضال من أجل تحرير سورية. إنّه جزءٌ مهمّ من فسيفساء الثورة والمقاومة السوريتين.

سينما المرأة والثورة السورية

"نزوح" لسؤدد كعدان يُثير شعوراً بأنّه مصنوع بافتعال وسذاجة، ولعلّه حاول الاستفادة من دعم أجنبي، واللعب على وتر يخصّ المرأة في مغازلة الغرب، رغم أنّ التجربة الأولى للمخرجة، "يوم أضعت ظلي" (2018)، أقوى مضموناً وتصويراً سينمائياً يهتمّ بالتشكيل الإبداعي للكادرات، وإضاءة ومحاولة خلق إيقاع سينمائي. تعاونت كعدان مع ممثلين لاجئين: تخرج الأم الشابة سنا، صيدلانية يعمل زوجها في السعودية، للبحث عن قارورة غاز لتطهو طعاماً لصغيرها المفعم بالحيوية والإحساس بالمسؤولية. أثناء ذلك، برفقة اثنين آخرين، نرى استيلاء أفراد من الجيش على القارورات، ومطاردة سائق تاكسي خوفاً من الإمساك بمواد مُصوّرة للحرب يُهرّبها، ورحلة التيه في منطقة محصورة بين القوات المتقاتلة، ومحاولة تجنّب القنّاصة. هناك رجلٌ يؤجّر لهم سيارة فارغة من البنزين، بعد استيلائه على بعض الحلي منها ومن الفتاة الأخرى، وأحاديث عن تدهور الأخلاق، وانتشار الغش في الحرب، وعن نقص الأدوية والطعام وأعمال القبض والاعتقال والاختفاء لكثيرين. أخيراً، مشهد حفر القبور بجوار منزل، استعداداً لدفن ثوار شهداء، ومحاولة تضميد جراح المُصابين. أمورٌ نراها في أفلام لاحقة.
للمرأة وجود في أفلام سورية عدّة، كـ"الكهف" (2019) لفراس فياض، الذي يبدأ من مشهد ليلي، ونظرة عُلويّة لبلدة الغوطة، حيث الهدوء يكسره تفجيرات متتالية تُزيح هذا الظلام. صوت أجراس كأنّها لكنائس توحي بالإنذار، وتُشعَل شمعة في قلب الظلام دلالة رمزية على ما أدّته طبيبة وزملاؤها في قلب هذا الجوّ الانتحاري، فهناك إبادة جماعية لنحو 400 ألف مدني استُخدم ضدهم السلاح الكيماوي، ومن عاش منهم ظلّ لست سنوات في الحصار والقصف المنتهيين بالتهجير.
أماني طبيبة أطفال، معها يروي هؤلاء كيف أُصيبوا، وكيف استشهد ذووهم. هنا، يتجلّى الدور الإنساني لها في مَشاهد رقيقة: كيفية تعاملها معهم لتخفيف لحظات ثقيلة من الخوف، وإبعاده عنهم تدريجياً بإلهائهم عن أصوات القصف والتفجير. ثم كيفية إسعاف الجرحى. الطبيبة شاهدت مآسي كثيرة وكذباً كثيراً. كانت تبحث عن طريق للنجاة. هناك رسائل صوتية من أهلها على هاتفها يدعون لها بالنجاة أحياناً، وأحياناً أخرى يتمنّون أنْ تستجيب لدعوتهم لها بالعودة إلى بيتها. في النهاية، تقول إنّه لم يعد ممكناً العودة إلى منزل والديها إلا بعد اختفاء النظام.

المفارقة في هذا الفيلم رؤية أحياء تحت الأرض، بينما الأموات فوقها. معهم نعيش الحياة اليومية في هذا الكهف. مع نقص الأدوية، تحصل شجارات، وينضح الاحتجاج بالذكورية ضد المرأة، إذْ تُنتَقد الطبيبة لأنّها تعمل، بدلاً من شكرها، بل يطالبها بعضهم بالعودة إلى بيتها والبقاء مع أهلها. لكنّها لا تستسلم، بل تؤدّي دوراً بطولياً في إنقاذ ضحايا السلاح الكيماوي الذي أطلقه النظام السوري ضد المدنيين عام 2013.

لحظات بهجة

لا شكّ أنّ الوثائقيات تتفوّق على الأفلام الروائية في نقل جوانب مهمة ومتنوّعة من الثورة السورية، ومنها ما يروي قصص انتفاضات الأمهات السوريات. هذه الأفلام وإنْ اختلفنا في تقييم بعضها، لا بُدّ للمتأمّل أنْ يجد فيها لقطات تكشف زوايا تُكمّل فصولاً مفقودة من تاريخ تلك الثورة.
مثلاً: "آخر الرجال في حلب" (2017) لفياض أيضاً. رغم مشاهد الموت والقتل والدمار، واستخراج الجثث من تحت الأنقاض، وظهور الجراح المثخنة، هناك في المقابل توثيق لحظات من السعادة والبقاء على قيد الحياة، ومحاولة زرع البهجة في قلوب الأطفال. كما ترصد الكاميرا العلاقة بينهم وبين آبائهم، ولحظات مرح يستمتع بها أب مع أطفاله، وآخر يجلس مع طفله، الذي يطرح على والده تساؤلات والأب يُجيب. في الخلفية، هناك مستوى آخر من شريط الصوت لرجال الدفاع المدني وهم يتناقشون. فيه أيضاً تفاصيل إنسانية عدّة، كلقطات تربية الأسماك التي نراها تارة سوداء وتارة أخرى مُلوّنة، كأنّها تحمل دلالاتها في كل مرة، فتتلوّن بألوان الأفكار والعاطفة التي تسيطر على الشخصيات.
المُدهش أنّ عدداً غير قليل من هذه الأفلام يتضمن أغاني مُبهجة، كأنّها تساعد على الصمود، وتمنح طاقة وبهجة متجدّدتين، فتشحن قدرات الناس على مواصلة المقاومة وعدم الاستسلام، تماماً كما فعل زوربا اليوناني عند وفاة ابنه.
 

المساهمون