إنه "الخامس من يونيو".
هذا حاصلٌ قبل 56 عاماً، وسيُسمّى الحاصل "نكسة" (1967)، والـ"نكسة" حاصلةٌ بعد 19 عاماً على "نكبة"، تتمثّل باحتلال بلد وأرض وشعب، وبنهب كلّ شيءٍ في البلد والأرض والشعب. "نكبة" تقول إنّ المحتلّ يدّعي أصالة في الجغرافيا والتاريخ، لكنّه يواجِه مقاومةً مستمرّة، لها أشكال مختلفة، وخيبات مختلفة، وانتصارات مختلفة، وانتصارات كهذه غير كافية.
قبل 18 يوماً، تذكّرُ الـ"نكبة"، بعد 75 عاماً على ارتكاب إحدى أقذر المجازر في فلسطين (15 مايو/أيار 1948)، يطرح أسئلةٍ، أختار منها واحداً: أين السينما الفلسطينية أولاً، والعربية ثانياً، من النكبة والنكسة معاً، ولاحقاً من ذاك الانتصار العابر في "حرب أكتوبر" (6 ـ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1973)؟ تغيب تلك السينمات. أفلامٌ تُنجز، لكنّها تبتعد عن جوهر الحكاية الأصلية. شعرٌ انفعاليّ يُصوَّر، ووثائقيات (تُسَمّى عربياً "أفلاماً تسجيلية"، بما يعنيه التسجيل من تحطيم للسينما، لحساب التلفزة بأضيق مفهوم بصري ممكن) تقول شيئاً من هذا، وفقاً لثنائية تتحكّم بالإنتاج السينمائي فترةً طويلة: تقديس بطولة الفدائيّ وشهادته؛ والتعامل مع الفلسطيني والفلسطينية كـ"ضحية"، والضحية هذه تكون، غالباً، نتاج احتلالٍ إسرائيلي، من دون اقترابٍ من سوء التعامل العربي معهما، إلّا نادراً.
مصر، "أمّ" الصناعة السينمائية العربية، تهجس بعلاقة الداخل المصري بفلسطين (وبالداخل المصري أكثر)، بأشكالٍ متنوّعة: فساد الملكية، قمع الناصرية، انفتاح الساداتية. هذا، طبعاً، اختزال لحالةٍ أكبر وأخطر وأعمق. المقاربة السينمائية شبه منعدمة. نكبة بلدٍ وناسٍ وبيئة واجتماع وتاريخ وعمارة وثقافة وحياة، تُترجَم كلّها في نكبةِ سينما، تعجز، أقلّه إلى الآن، عن قولٍ سينمائيّ مباشر وغير مباشر (وثائقي وروائي)، يتناول أحوالاً وانفعالاتٍ وأقوالاً وتأمّلاتٍ وحكاياتٍ، مرتبطة بالنكبة والنكسة.
يتزامن هذا مع إعلان إدارة "مهرجان لوكارنو السينمائي" ترميم فيلم "باب الشمس" للمصري يُسري نصرالله، في دورته الـ76 (2 ـ 12 أغسطس/آب 2023). فيلمٌ (2004) مُقتبس من رواية بالعنوان نفسه (1998) للّبناني إلياس خوري (سيناريو نصرالله وخوري، مع اللبناني محمد سويد)، "يؤرّخ"، نصّاً أدبياً وفيلماً سينمائياً، سيرةَ أناسٍ يحتلّ الصهيوني/الإسرائيلي مكانهم، بكلّ ما للمكان من تفاصيل ومسالك وارتباطات ومشاعر. سيرة تمزج التأريخ باللغة، وتُفكِّك أجساداً وأرواحاً ونفوساً، وتروي لحظاتٍ، واللحظات كثيرة. من نكبة إلى ما بعد النكبة، ومن قهرٍ وحبٍّ وخيبات وعيشٍ، إلى الأعمق والأجمل (رغم شيءٍ من بشاعة وألمٍ وانكسار) في معنى العيش والمواجهة، وفي التزام ذاكرة وجغرافيا وحياة، غصباً عن كلّ موتٍ يُراد له أنْ يُعمَّم.
أحاول فهم سبب الانفضاض السينمائي العربي عن النكبة والنكسة، وعمّا قبلهما وبعدهما. "فرحة" (2021)، للأردنية دارين ج. سلّام، المرتكز على لحظة النكبة (وعلى قليل مما قبلها، وقليل مما بعدها أيضاً) يُثير غضباً إسرائيلياً، وهذا حسنٌ ومطلوب، لكنّه غير كافٍ. وثائقيات تستعيد فصولاً من تاريخ عامٍ، وذاكرة عامّة وخاصة. هذا حسنٌ أيضاً، لكنّه قليلٌ وغير كافٍ. البحث عن أرشيف عربي (مستندات ووثائق)، إنْ يكن الأرشيف موجوداً بأشكاله المختلفة، حاضرٌ وإنْ بخجلٍ وندرة واضحين، لكنّ النتيجة كامنةٌ في غيابٍ شبه تام لأفلام (روائية ووثائقية) عن لحظات تاريخية كهذه.
أرشيف فلسطيني يُسرق (أم أنّه يُفقَد؟) من بيروت، عند الاجتياح الإسرائيلي (1982). صُور وتسجيلات ووثائق، تبحث عنها الفلسطينية عزّة الحسن، فيكون "ملوك وكومبارس" (2004) رحلةً في ذاكرةٍ وتاريخٍ وفنّ. الروائي "الزمن الباقي" (2009)، للفلسطيني إيليا سليمان، يعاين تلك النكبة، مستعيداً حكاية أبٍ وعائلةٍ ومدينة (الناصرة) وبلدٍ وحياة، تواجه (الحكاية) احتلالاً، وتجهد في بقاءٍ وعيشٍ.
السؤال عن الأرشيف العربي، الخاص بالنكبة والنكسة، يتعلّق بذاك الصادر من أجهزةٍ أمنية واستخباراتية وجهات سياسية وديبلوماسية (فلسطينية وعربية تحديداً)، كذاك الحاصل في الغرب. لكنْ، أهناك فعلاً أرشيفٌ عربي كهذا؟ إنْ يكن موجوداً، فهل يُسمح بالاطّلاع عليه، لمعرفةٍ وبحث واشتغال؟ مثلٌ حديث: "طنطورة" (2022) للإسرائيلي آلون شفارتس ("العربي الجديد"، 5 أغسطس/آب 2022) يستند إلى وثائق وشهادات صهيونية/إسرائيلية تفضح ارتكاب مجزرة في تلك البلدة الفلسطينية، في لحظة النكبة. تيودور "تيدي" كاتس، باحثٌ في جامعة حيفا، يحصل على شهادات وأرشيف، فيُحارَب بشدّة، صهيونياً وإسرائيلياً، ويُصاب بعطبٍ صحّي. بحثه فاعلٌ وقاسٍ، والفيلم ترجمةٌ بصرية له، لن تكون أقلّ قسوة. لكنْ، أين القول الفلسطيني، والعربي، في هذا كلّه؟
الأمثلة المذكورة، القليلة للغاية، غير لاغية محاولات جدّية عدّة، تنقيباً في ذاكرة الموت والمواجهة والحياة. لكنّ الموجود ناقصٌ، والأرشيف الذي يروي حكايتنا صهيونيّ/إسرائيلي غالباً، وعند كشف بعضه، في السينما وخارجها، يهتزّ الكيان المحتلّ، فالجريمة واضحة وموثّقة بأيادي مرتكبيها. أبحاثٌ علمية عربية، تمتلك مصداقية كبيرة، حاضرة في المكتبة العربية، وهذا مهمّ وأساسيّ. الحاجة كبيرة وملحّة إلى الصنيع السينمائي، أو إلى مزيدٍ من النتاج السينمائي.