الحاصل راهناً خارج الخيال والواقع

25 أكتوبر 2024
طائرة لبنانية تهبط في مطار بيروت بعيد قصف محيطه (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تلعب الصور الفوتوغرافية والفيديوهات دورًا حيويًا في توثيق الأحداث في لبنان، حيث تعكس الدمار والتهجير، وتثير تساؤلات حول دور الفن والتقنيات في توثيق الحقيقة أو تزويرها.
- صورة طائرة "الخطوط الجوية اللبنانية" تسببت في جدل حول حقيقتها ورمزيتها، مما يعكس الانقسام بين الرؤية الوطنية والتحليل العقلاني، وغياب النقاش الهادئ في الأزمات.
- السينما تقدم جماليات تتجاوز الوثائقي والروائي، وتثير صورة الطائرة مشاعر وطنية، مع تساؤلات حول الحاجة إلى العنف المشهدي في الأزمات.

 

للصُور (فوتوغرافيا وفيديو) حضورٌ في فيسبوك اللبناني. صُور عن حربٍ إسرائيلية تُمعن قتلاً وتدميراً. مدن وقرى لبنانية يُذكِّر سحقها وتغييب أهلها عنها (موتاً أو تهجيراً) بجُرمٍ صهيوني زمن التحضير لإنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين. 76 عاماً، كما الحاصل قبل 14 مايو/أيار 1948 وفيه وبعده، غير لاغيةٍ حضور توثيق تلك الصُور في وجدان وذاكرة.

الصُور مستمرّة في اشتغالها، وبعض الاشتغال يطرح سؤال الفن والتقنيات الحديثة (فوتوشوب، ذكاء اصطناعي). فالفن غير أساسيّ في توثيق لحظة وتكثيف حالة. التقنيات تُستَخدم لحفظِ توثيقٍ وتكثيف، أو لتزويرِ لحظةٍ وحالة. التلاعب يبلغ مرتبة إزالة كلّ فاصل بين واقع ـ حقيقة وافتراء ـ تزوير. هذا يُشبه تلفيق أخبار لخداعٍٍ وتجهيل، في جانبٍ نفسيّ من حرب الإبادة.

صورة تُثير رغبة في نقاش: طائرة مدنية تابعة لـ"الخطوط الجوية اللبنانية (MEA)" تهبط على المدرج الغربي لـ"مطار بيروت الدولي" لحظة قصفٍ إسرائيلي على محيط المطار (21 أكتوبر/تشرين الأول 2024). صورة مُتداولة كثيراً، فيسبوكياً وربما في وسائل أخرى، تُعيد طرح سؤال الواقع ـ الحقيقة والتلاعب ـ التزوير ـ الخداع. يُقال إنّها مُتلاعبٌ بها، ويُقال إنّها حقيقية تؤكّد "بطولة" قائدي طائرات الشركة ومضيفيها ومضيفاتها في أوقاتٍ مصيرية كهذه. "الوطنيّ" في الدفاع عن مضمون الصورة غير آبهٍ بمدى واقعيّتها ـ حقيقتها، فالأهم عنده رمزيّتها المتعلّقة بـ"بطولةٍ" يحتاج إليها لبنانيون ولبنانيات كثيرون في زمن هزائم، شخصية وجماعية. "العقلانيّ" يريد حيّزاً غير انفعاليّ، فيقول بعدم واقعيّتها ـ حقيقتها، محاولاً إيجاد ما يؤكّد ذلك، علماً وفناً، فالأهمّ في تحليله التنبّه إلى الفاصل بين واقع ـ حقيقة وكذب ـ افتراء.

كأي مسألة تُطرح، في فيسبوك وخارجه، يندر أنْ يُناقَش شيءٌ برويّة، فالحرب أعنف من أنْ يُسمَع فيها صوتٌ هادئ، له مصداقية قول وتحليل. "الوطنيّ" طاغٍ في أزمنة موت وخراب، وإنْ بانفعال وتشاوفٍ وادّعاء غالباً. "الوطنيّ" في أزمنةٍ كهذه غير مُكترثٍ بمنطق ووعي، فالراهن أهمّ، و"لا شيء يعلو فوق صوت المعركة"، و"لبنان طائر فينيق سينهض من موته حتماً". الصورة تلك تعيد إبراز إشكالية النقاش، بل غيابه لمصلحة عصبيّةٍ وتوتّر. الصورة، بل ما يتردّد حولها وعنها، تؤكّد المؤكّد في بلدٍ معطوبٍ من دون حروب إسرائيلية، فكيف معها وفيها؟ الكلام عن الصورة وما فيها، إنْ تكن الصورة واقعية ـ حقيقية أمْ لا، امتدادٌ لفراغٍ وعبثٍ متفشيّين في اجتماع وعلاقات وتواصل.

هذا لا علاقة له بالسينما. أحد أجمل ما في السينما قدرتها على إزالة كلّ فاصل بين التناقضات، لصُنع صورة أجمل وأرقى وأعمق، وإنْ يعكس مضمونها كارثة وموتاً وعنفاً ودماراً ومَسْحاً وتغييباً وجثثاً. السينما، منذ وقتٍ مديد، لاغيةٌ أصلاً كلّ فرق بين وثائقيّ وروائيّ، فالتداخل بين النوعين يُنتِج غالباً جماليات بصرية ستكون دائماً أهمّ من تحديد نوعٍ. صورة الطائرة اللبنانية غير سينمائية، لكنّها، رغم بساطتها الفنية (إنْ تكن واقعية ـ حقيقية أم متلاعبٌ بها) تؤجّج في نفوسٍ كثيرة حسّاً وطنياً يطلب مزيداً من الموت لإشهار بطولة مواجهته، وتحثّ عقولاً قليلة على التنبّه إلى خطورة الانجراف في فخّ الدعاية الفارغة. ألن تكون أفلامٌ كثيرة، بسينمائيّاتها البديعة أحياناً، شبيهةً بهذا كلّه؟

قولٌ لأحمد غصين (مخرج سينمائي لبناني)، منشور في فيسبوك (22 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، مع صورة الطائرة (غير صالحة لنشر صحافي)، يُعتَمد عليه. فبعد اختصاره سجالاتٍ حولها، يكتب عن قوة الواقع وقوة الخيال، وعن أنّ الأولى أقوى من المتخيّل، وأنّها (الأولى أيضاً) غير محتاجة إلى صورة يصنعها الذكاء الاصطناعي، فـ"قوة الواقع صارت عنيفة إلى درجة أنّ ما نعيشه صار متداخلاً، ونحتاج إلى وقتٍ لنستوعبه". يُضيف أنْ لا أحد يحتاج إلى صورة ذكاء اصطناعي للشعور أنّ قصفاً إسرائيلياً حاصلٌ قرب المطار مباشرة: "لكنّ قوة الصورة تُزيد من العنف". يتساءل: "أنحتاج إلى رؤية مزيد من العنف المشهدي، والإحساس به؟"، قبل إنهائه نصّه (بالعامية اللبنانية) بالتالي: "غير مهمّ إنْ تكن الصورة خيالاً أمْ واقعاً".

أُضيف إلى خاتمة قوله أنّ الحاصل في لبنان، وقبله في غزة تحديداً، غير مُحتاج إلى نقاشٍ يتناول خيال صورة أو واقعها. فالحاصل راهناً خارج الخيال والواقع معاً.

المساهمون