استمع إلى الملخص
- الفيلم يعرض مشاهد مؤثرة تعكس عمق الصداقة والتضامن، ويطرح قضية الموت الرحيم بسلاسة وهدوء، مع تصوير فعل إنغريد كدعم وشجاعة، مما يثير نقاشاً حول التبعات القانونية والأخلاقية.
- الجوانب الفنية تبرز بشكل لافت، من التصوير إلى الأزياء، مع أداء مميز من تيلدا سوينتن وجوليان مور، مما يضفي مصداقية وجمالاً على الفيلم.
هل حاول بيدرو ألمودوفار إنجاز "بيرسونا" خاصته؟ ففي "الحجرة المجاورة"، الفائز بـ"الأسد الذهبي" في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، بدا تأثّره به شديداً، بقصدٍ أو من دونه، أو استلهاماً منه لتحفة السويدي إنغمار برغمان (1966). ليس فقط لوجود بطلتين، بل لمشتركات كثيرة تحيل إليه.
صحيحٌ أنّ الشخصيتين لا تندمجان معاً، ولا يوجد تماه أو تطابق بينهما، كما في فيلم برغمان. لكنّ مشاهد كثيرة تتقاطع معه: عناق إنغريد (جوليان مور) لمارتا (تيلدا سوينتن) الجالسة أمام جهاز الكمبيوتر. نوم إنغريد ببطء إلى جوار مارتا، وتعمّد اللقطة إخفاء وجه الأولى ببطء خلف رأس الثانية، بينما تضع إنغريد رأسها على الوسادة.
في الملصق، يتّحد وجهاهما معاً، وإنْ بطريقة متعاكسة. هذا يُحيل إلى لقطات مُقرّبة التقطها برغمان لوجهي بيبي أندرسن وليف أولمان. لدى ألمودوفار لقطات مقرّبة لوجهي مور وسوينتن معاً، أو لكلّ منهما على حدة. أمّا اختلاف الحبكة فليس كبيراً، رغم تباين الموضوعين: في الحبكتين، هناك امرأتان إحداهما تعاني، والأخرى تقف إلى جانبها.
تعاني مارتا سرطان الرحم، في مرحلة متقدّمة. لم يعد لديها الكثير. تعاني آلام الموت، وصعوبة مفارقة الحياة. لم تتوقّف يوماً عن رغبة العيش والعمل والاستمتاع بالحياة. لكنها سئمت من محاربة خوف أنّها ستموت قريباً. تكتشف ما ستفعله حيال ذلك. فجأة، تعلم صديقتها القديمة إنغريد بالأمر. تهرع إليها في المستشفى. تتجدّد الصداقة وتتعمّق أكثر، مع تكرّر الزيارات، وتدهور الحالة. أخيراً، توافق إنغريد على أنْ تكون رفيقة مارتا في الحجرة المجاورة لحجرتها، في بيتٍ بعيد تودع فيه مارتا الحياة بكامل إرادتها.
ينضح الفيلم، الشيّق والجذّاب والممتع، بإنسانية وعمق ورقّة، رغم المرض والموت. ينسج ألمودوفار أحداثه من دون استطراد وتكرار وملل وإطالة، من لا شيء تقريباً. هذا يؤكّد براعته كاتب سيناريو ماهرا، يعرف كيفية معالجة موضوعه برهافة، وطرح وجهة النظر بسهولة وسلاسة. يُصرّ على ألا يكون "فيلمَ قضية"، رغم طرحه قضية خطرة تُثير نقاشاً، وغير محسومة، ومجرمة في أماكن كثيرة في العالم، يُمرّر "القضية" بسلاسة وهدوء وعقلانية، ومن دون انحياز وإقرار بأنّ ما فعلته مارتا صواب أو خطأ، أو دعوة إلى تأييد أو تقييد حرية فعل كهذا.
لم يُظهر ألمودوفار أن ما فعلته إنغريد (مرافقة مارتا في إنهائها حياتها) جريمة أو مساعدة على اقتراف جريمة، أو تصرّف يستوجب عقاباً، بل فعل شجاعة وقوة داخلية وإيمان بالحرية، ودعم وتعاضد وعدم تخلّ عن صديقة في محنة. رغم ما ينطوي عليه الأمر من خطورة، نظراً للتبعات القانونية المترتبة على ذلك حال انكشافه وثبات علمها به مسبقاً.
أكثر ما يلفت في الفيلم، بعيداً عن السيناريو والحوار الدقيق المحسوب وبراعة الأداء، التصوير الحيوي لإدوارد غْرَاو، وجهد سبعة فنّيين صنعوا هندسة المناظر والديكور والأزياء والمكياج بهذا الجمال والثراء والألق والتنوّع، مع توزيع متناسق للألوان الحارة والدافئة، وحضور لوحات تشكيلية وفوتوغرافية على الجدران، وتصميم الملابس وتناسقها مع الأثاث، ونعومة الإضاءة المقبلة من الخارج أو من المصابيح الخافتة.
تجلّى جمال الديكور في حجرة المستشفى، شديدة البساطة والتأنّق، وفي المنزل خارج المدينة، بالغ الفخامة والرقّة والرومانسية، حيث تقضي مارتا أيامها الأخيرة. هذا يجعل التكوين البصري النهائي شديد الجاذبية والجمال، ولا يُمَلّ من النظر إلى الإطارات، بتفاصيلها الجميلة والمبهجة، رغم الموت المُطلّ عبر الشخصية، والمُهيمن على الفيلم.
المُثير أنّ الأحداث في نيويورك، لكنّها لا تظهر أبداً، بل فقط انعكاس ناطحات سحاب عبر الزجاج، أو أفق مفتوح وبنايات وثلج يتساقط. الخروج غير مطروح كثيراً، واللقطات الخارجية قليلة. لم يجازف ألمودوفار كثيراً في أرض ليست أرضه.
الأبرز والأجمل، والأكثر إسهاماً في نجاح "الحجرة المجاورة" وعمقه ماثلٌ في الـ"كاستنغ". للمخرج قول فصل فيه، وهو بارع دائماً في اختيار بطلات أفلامه. حسن اختياره تيلدا سوينتن في دور مارتا المريضة، وجوليان مور صديقتها، له أثرٌ بالغٌ في مصداقية فيلمه وجماله وسلاسته، وفي تقبّل الموضوع، والتقاط مشاهد عادية وصعبة، وحضور الممثلتين في معظم المشاهد. هذا يبرز أهمية المهنة وفنّيتها، وضرورة الالتفات إليها لإنجاح أي فيلم. لا مبالغة في القول إنّه لولا وجود سوينتن ومور لما نجح الفيلم، إذْ استطاعتا، ببراعة وحِرفية وبنبرة صوت وأداء جسد وصدق انفعالات صُنع الفيلم. هذا غير معقود على فرادة كل منهما وتمكّنهما، بل على كيمياء خاصة بينهما، أوجدت انسجاماً ملحوظاً يُصدَّق.
رغم البياض الشديد لوجه سوينتن، الموحي بشحوب وشفافية وصدق، وبالمرض أيضاً، برع ألمودوفار في توظيفه لإبراز مراحل مرض مارتا. استعان بمكياج دقيق وبارع ومحترف طبعاً: وجهٌ شاحب بسبب الموت الوشيك يتزيّن بأحمر شفاه قان، خالقاً من وجهها بورتريه يشعّ قوة وجمالاً وخوفاً، وموتاً. في الجزء الأخير، تجلّى استخدام المكياج بشدة، فبعد وفاتها، تحضر ابنتها (سوينتن) للقاء إنغريد، لكنّ الممثلة مغايرة كلّياً: صغيرة ونضرة وجميلة، وقَصّة شعر مختلفة، تصلح لأن تكون ابنة مارتا. لكنّ هذا الجزء زائدٌ وغير مقنع، بل الأضعف، كما ظهور سوينتن في هيئة جديدة.
أمّا وجه جوليان مور فجميل وحيوي ونابض بالحياة والصحّة، رغم تقدّم العمر. هذا أوجد تناقضاً، مقارنة بالوجه المريض لسوينتن. هذا يبرزه اللون الأخضر الحيوي، المُشعّ بدرجاته المختلفة، الذي ترتديه مارتا. وجه مور ليس مُحبّباً فقط بما هو إطلالة مشرقة في فيلم قاتم، بل إنّه، لرقّته وصدقه وتفاعله وحيويته المؤثّرة، يُثير شعوراً بأنّه صالح لصديق حميم ومخلص وكاتم أسرار. كما أنّه يحضّ على الدردشة والبوح والثرثرة، من دون أنْ يُمَلّ من رؤيته.
"الحجرة المجاورة" ليس أقوى أفلام ألمودوفار، ولن يُذكر كثيراً بين أفلامه إلاّ عند ذكر جوائز حاصل عليها، أو من تلك التي يحضر الموت فيها، وهذه ليست قليلة، أو ذات جماليات بصرية لافتة، ليست قليلة أيضاً. ليس أفضل الأفلام التي ناقشت قضية الموت الرحيم، والرغبة في مفارقة الحياة، وتجنب الألم والعذاب، ومعاناة الاحتضار وآلام السرطان. مع ذلك، إنّه أكثر الأفلام المتناولة للموضوع رقة ودفئاً وسهولة متابعة وتفاعل وتأثر، وإثارة للتفكير. وأقلّها حزناً وابتزازاً للمشاعر. الأهمّ أنّه الأقلّ ميلودرامية وابتعاداً عن كليشيهات معتادة ومبتذلة، وحوارات مُكرّرة، وأداء مفتعل. أحياناً، يُستَمْتَع بفنّية الموت، مع موسيقى ألبرتو إيغليسياس، المكتوبة للتشيلو والكونترباص وغيرهما.