استمع إلى الملخص
- يعرض الفيلم المواقف الخطيرة التي واجهها الطاقم، من محاولات مرافقة سيارات الإسعاف المعيقة إلى مداهمات المنازل، مؤكدًا على الأثر النفسي والجسدي للعمليات العسكرية على المدنيين، خصوصًا الأطفال.
- يختتم بتسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي من قبل جيش الاحتلال، مع التركيز على استهداف الأطفال وتحدي الإفلات من العقاب، مبرزًا صمود ومقاومة الفلسطينيين وتأكيدهم على هويتهم الموحدة.
من الراسخ أن يُلحق بالوثائقيّات اسم الشبكة المنتجة، وبذلك تستمدّ البرامج والتقارير بُعداً مرتبطاً بأهليتها للعرض والإنتاج عبر شبكاتٍ عريقة ومرموقة، ذائعة الصيت كصرحٍ للموضوعية والاستقلالية. أمّا وقد وصلنا إلى عالم ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فإن كُبرى وسائل الإعلام تجرّدت من آخر رصيدٍ لها لدى قطاعات واسعة من الجمهور، ولا يقتصر ذلك على الجمهور العربي والإسلامي بالتأكيد. وسط التصدير المُعلن للسردية الإسرائيلية لتسعة أشهر، يطلّ وثائقي "الحرب الأخرى" من شبكة BBC، إخراج جوشوا بيكر، في مطلع مايو/ أيّار الماضي، ويسبر خلال ستّين دقيقة حركة المراسلة الشهيرة Isobel Yeung، في عدّة مناطق من الضفة الغربية، مقتفيةً انتهاكات الاستيطان وممارسات جيش الاحتلال، كما تسمّيه، في اعتناقٍ للتسمية المحليّة. مسيرة يونغ زاخرةٌ بالوصول إلى شتّى البقاع الساخنة؛ فقد عبرت خطوط النزاع في سورية، وقدّمت برامج عن الصين وإيران، وحتى أنفاق غزّة في وثائقيٍّ سابق لشبكة فايس في عام 2021، وتلت عرض فيلمها الأخير مغادرتها لـBBC والتحاقها بشبكة CNN.
يلازم التوجّس تجربة المشاهدة. منذ البداية يقول مواطن فلسطيني من طولكرم عن العمليّة التي تشنّها قوات الاحتلال إنّهم يقتلون الجميع. يحوّل التعليق الصوتي لاحقاً المعلومة إلى ما يشير إلى أن القوّات ترتكب إساءات داخل المنطقة المحاصرة. ونحظى بلمحة عن هذه الإساءات أثناء مرافقة طاقم التصوير لسيارة إسعاف تفشل في الدخول إلى المخيّم استجابةً للإصابات، إذ يُسارع الإعلاميّون بالتصريح عن جنسيتهم وعملهم لدى هيئة البث البريطانية فور إدراكهم أنهم في مرمى أسلحة الجنود.
يتكرّر الموقف لاحقاً في "الحرب الأخرى" أثناء مداهمة لمنزل في مخيّم الفارعة يضمّ أطفالاً ونساءً. في كلتا المرتين ننجو. لحسن الحظّ تنفع حصانة الصحافة الغربية، وبينما لا تسجّل الكاميرا أيّاً من أحداث المداهمة أو التوقيف، يُقيّض لنا رؤية ما بعد الحدث، كالجدّة التي تضم صغيراً باكياً لتهدّئ من روعه في المنزل الآمن.
بالإمكان القول إن "الحرب الأخرى" سيراوح في نقطة تفحّص العواقب؛ يدخل طولكرم بعد انتهاء عملية جيش الاحتلال، ثم يلتقي بمستوطنين بعدما أنهوا بناء مقرّهم الكاشف للقرى الفلسطينية المحيطة، وكذلك يحاور جنوداً سابقين، كأنما الوقائع شديدة الثبوت وعلينا التعامل بالضرورة مع مرحلتها التالية.
هل هي حربٌ أخرى؟ لا. لكن السؤال لن يُطرح، ولن يُلمّح أن القصد بالعنوان عن الحرب التي يخوضها الفلسطينيون لإثبات الجرائم المرتكبة بحقّهم، فكل ما جمعه الفريق الإعلامي من إثباتات سيواجه برفض التعليق المباشر من متخصصين في مجال حقوق الإنسان وجرائم الحرب وكوادر من الأمم المتحدة. تشمل القرائن إثباتاتٍ عن سحل الجثث، وتخريب الممتلكات، والتحقيق المفصّل عن استشهاد الطفلين باسل أبو الوفا (15 عاماً)، وآدم الغول (ثمانية أعوام)، في جنين إثر إطلاق دوريّة عسكرية إسرائيلية النار عشوائياً عليهم في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2023، منح الخبراء تحليلهم شريطة إغفال هويّاتهم باستثناء ثلاثة ظهرت أسماؤهم؛ أشجعهم سيقول إن مقتل آدم يبدو انتهاكاً لحقوق الإنسان وجريمة حرب، بينما توافق الجميع على ضرورة التحقيق في هذه الحوادث.
وحدة الوجود الفلسطيني التي ينكرها العنوان ستتمثّل بأجوبة أهل الضفّة التي تتحدث عن كامل فلسطين، وعن أوضاع جميع الفلسطينيين، كذلك العدوّ الذي لن يدّخر كراهيته لأحدٍ دون آخر من العرب. يطرح الوثائقي سؤاله المركزي عن أخلاقيات جيش الاحتلال في منطقةٍ ليست مصنّفة كمنطقة حرب، ويجمع دلائل واضحةً عن انتهاكاتٍ جسيمة للقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان، أكثفها وأشدّها التصاقاً بهويّة هذا الجيش استهدافُه المنظّم والواضح للأطفال.
ربما نمتلك من الأحقية ما يجعلنا نسفّه السؤال أمام الوضوح الذي نعيشه، مع ذلك لا بدّ من التفكّر في الأجوبة التي تأتي ضمن هذا السياق، إذ تتعاقب كأنّها مسألة إسرائيلية فحسب، لا دور للفلسطينيّ فيها. يمرّ الوثائقي على جوابٍ رسميّ من وزارة الدفاع ينكر فيه تصرفاتٍ فرديّة على جنوده، وتُفرد المساحة الأوسع لأصوات إسرائيلية مناهضة لحكومتها أو للاستيطان، ويتضّح أنه ما من مسار عمليّاتيّ للتحقيق الداخلي بأي انتهاكٍ يحصل للفلسطينيين، كما أن الشرطة غير معنيّةٍ بهم، بل الأمر من اختصاص قوّات الجيش طالما القضيّة تمسّ الفلسطينيين. هذا السعي الحثيث إلى التفتيش عن صورة عاقلة لدولة الاحتلال، يخلص إلى الإقرار بأن إسرائيل تواجه تحدّياتٍ في الضفّة الغربية، لكنها تستجيب بطرقٍ مبالغ بها، بذلك لا يخالف الوثائقي الخطّ التحريري لمنصّته، بعدما ترك رصيداً وافراً من الصورة؛ مجتمعاً فلسطينيّاً يزداد تصميماً على المقاومة، بينما يكمل تعليمه ويحرص على زيتونه ولو كان بقرار محكمةٍ لا يصمد أمام جحافل الجنود، مقابل تطرّفٍ لا يخمد لدى الطرف الآخر ترعاه حكومته وتزوّده بالسلاح.
يصل عدد الأطفال الذين استشهدوا في الضفة الغربية إلى 112 منذ بداية عام 2023 حتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2024، أصغرهم في الثانية من عمره. تثبت التقارير الطبّية أن جلّ الإصابات تستهدف الجزء العلوي من الجسد. ويؤكّد طبيب فلسطيني أن عدد الإصابات اليومي لمن هم دون الثامنة عشرة بعد السابع من أكتوبر 2023 يراوح بين سبع وعشر حالات.
تنتهي رحلة يونغ في "الحرب الأخرى" مع بلوغ الفتى عبّود عامه الثامن عشر. سبق للشابّ أن تعرض طفلاً لرصاص الاحتلال الذي اخترق كتفه، لا لشيء سوى أنّه فرّ من أمام الجند. أتمّ الفتى طفولته متحدّياً الاحتمالات والإحصائيّات التي تتناوب في الظهور على الشاشة، وكأنه يصل لخط النهاية مع انتهاء الوثائقي الإخباري، والأمر كذلك إن شئنا القول عن الاهتمام الإعلامي المدروس تجاه الفلسطينيّين، والمفردات المسبوكة عن جرائم الحرب وانتهاك حقّ الحياة.