استمع إلى الملخص
- الدراما السورية غالباً ما تعكس الماضي وتفتقر إلى الجرأة في مواجهة الرقابة، حيث تقدم محتوى يكرس حرية إبداعية مشروطة، مثل المسلسلات التاريخية والفانتازيا.
- التغيرات السياسية والاجتماعية في سوريا منذ 2011 تثير تساؤلات حول مستقبل الدراما ودورها الاقتصادي والاجتماعي، مع التركيز على حرية التعبير والوصول إلى المعلومات.
بمعنى عروض الدراما التلفزيونية، لم يعد هناك تلفزيون أو تلفزة، بل شاشات متنوعة، تعرض ما تشاء، وتتجاهل ما تشاء. شاشات تخترق الحواجز، والإدارات، والرقابات والموانع. صحيح أن معظمها لا يقارب السياسة، إلا أنها كلها تتسرب في اللاشعور، حيث تراكم خزيناً معلوماتياً لدى المشاهدين، لا يعرف أحد متى يتحول إلى معرفة عملية، سلبية كانت أم إيجابية، فالأمر سيان، إذ إن الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب؛ عروض الدراما مستمرة، ولن يستطيع أحد النجاة من فعلها، على الرغم من أن المقدمات تشي بالنتائج، وهنا وحدها الرؤيا للعالم وتطوراته ومستجداته قادرة على إستيعاب فكرة دمج الفن بالإعلام، المفتوح منه، بالأقمار الصناعية والإنترنت. لن يستطيع "قريباً" إغلاقه أحد، أو حتى الحد من تأثيره، ولنا في الفترات السابقة عبر، لمن يعتبر ومن لا يعتبر، وعلى هذا أدعو للتفكير في مستقبل الدراما، بمناسبة الحدث السوري التغييري.
إلا في ما ندر، لم تكن الدراما السورية سوى سجل ماضوي، بغض النظر عن زمن وقوع الحدث الدرامي، فالحداثة لم تقارب هذه الدراما إلا من باب التكنولوجيات، ولكن متنها وخطابها ظلا ماضويين بإمتياز، رغم إصرارها الشديد على ادعاء انطلاقها من المجتمع والعودة إليه ضمن رمزيات مرتجلة، لا تقارع رقابة، أو تخدش حياء سلطات متنوعة، تهدد بعصاها كل من يحاول إظهار الواقع، سياسياً كان، أم ثقافياً، أو اجتماعياً...
وعلى هذا الأساس تملصت من العقوبات، وسارت تحت سياطها حتى شاشة العرض، حيث تركت لمصيرها الانتقادي، لأن لا أظافر وأسنان للفن للدفاع عن حقه بالقول، حتى لا نقول حقه بالحرية، أو حقه بإبداع غير مسبوق، أو ادعاءه أنه سيحدث فارقاً ما. هذا الحق ولو بدا مرئياً ، إلا أنه محاط بأسلاك شائكة عالية وجارحة، وأولها "بضاعتكم ردت إليكم"، بمعنى أن ما تسرب إلى الخزان المعرفي للمشاهد يمثل هذه الدراما تقدماً أو تخلفاً، فالمنتجات الدرامية نفسها بدت وكأنها تعمل ضد نفسها من ضمن مقولاتها، كانت تكرس "نوعاً" كهذا من الحرية الإبداعية، وهي نفسها قدمت خبزاً للمشاهد مشترطة عليه ألا يقسّم الرغيف، وألا يأكل من المقسم، وأن يأكل حتى الشبع، ولنا في أمثلة المسلسلات التاريخية، والفانتازيا التاريخية، وسلاسل البيئة الشامية خير مثال، ولكن الأهم هي المسلسلات المعاصرة التي تنهل من الماضي لغتها وأفكارها ورسائلها التوعوية. الأمثلة كثيرة وتشمل "الفوارس" (فانتازيا تاريخية، 1999)، و"صلاح الدين الأيوبي" (تاريخي، 2001)، و"وراء الشمس" (اجتماعي معاصر، 2010)، و"ليالي الصالحية" (بيئة شامية، 2004)، وكلها تتشابه مع "باب الحارة" (بيئة شامية، عرض الجزء الأول عام 2006) من ناحية المحتوى والمضمون، ومن هذه الناحية لا فرق بين تاريخي ومعاصر، على الرغم من الادعاءات بالإسقاط على الواقع في الزمن الحالي.
اليوم في هذا الظرف المستجد، أو البداية الجديدة لسورية التي طالبت بالحرية مطلبا أول في 2011، هل نستطيع أن نرى مستقبلا ما لهذه الدراما التلفزيونية؟ هذه الدراما، اقتصادياً على الأقل، مصدر رزق لمئات العائلات إذا لم يكن للآلاف. إنها واحدة من السلع الثمينة التي تنتجها سورية وتصدرها، ليس بما هي حكاية بصرية فقط، بل تشتمل على الكثير من المنتجات الأخرى التي تطرحها هذه الأعمال عبر الشاشات.
السؤال الأهم الذي يعبر عن قلق ناجم عن عدم إتضاح الأمور من جهة، وقلق نسيان الموضوع برمته من جهة ثانية على اعتبار أنه مسائل ثانوية أو تفاصيل صغيرة في المشهد العام، والذي يريد صناع الدراما معرفته مبكراً، هو سقف الرقابة والتحكم، الذي تنوي السلطات الجديدة تطبيقه، على أمل أن يكون أقرب للحرية، المطلب الأول لكل الحراك الذي استمر منذ عام 2011، والذي يعني في ما يعنيه حرية التعبير المرتبط بشدة مع عمليات التداول السلمي للسلطة، فحرية التعبير هي المكلفة بالإعلان عن الجمود أو حتى الاستنقاع الثقافي والاجتماعي، وفي هذا الكثير من السياسة، وهنا ليس المطلوب الرأفة بالمنتجات الدرامية التلفزيونية، بل الاعتراف بالحق التأسيسي لحرية التعبير، وكذلك حق الوصول إلى المعلومات، فالعلانية شرط من شروط التغيير الرشيد.
لن يذهب صناع الدراما التلفزيونية لصناعة فواحش تتعاكس مع ميول المجتمع، فالدراميون ناس عقلاء، يستخدمون مواهبهم ومعارفهم لتقديم الخير لشعبهم، تماماً مثل المشاهدين الذين ليسوا بالقصّر، بل يفهمون ما يقدم إليهم، ويفرزون الغث من السمين، حسب رؤاهم الفردية، فهم في المقام الأول ليسوا قطيعاً، وعليهم ألا يسمحوا للدراما ولا لغيرها التعامل معها على هذا الأساس، في محاولة لعكس اتجاه التربية الإجتماعية لتصبح الحوكمة الرشيدة من إنتاجهم، ولن تنزل عليهم من أعلى إلى أسفل، على مثال تبلغوا وبلغوا.