عند الإطلالة، بعين موسيقية، على الرقعة الجغرافية التي باتت تُسمّى اليوم مينا MENA، ويُقصد هنا كل من منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تُسمع الناحية الغربية المُطلة إما على البحر الأبيض المتوسط أو المحيط الأطلسي، وهي تعجّ بموسيقى الهيب هوب، والأدوار السوسيوثقافية التي تتمثل من خلالها، لجهة المظهر والخطاب.
سواء، أكان الأمر بالنسبة إلى جيل شاب من المهاجرين المغاربيين المقيم في المهجر، من الجيل الثاني أو الثالث، أي من وُلد وكَبُر هناك، أو ذاك الذي لا يزال يعيش بين ربوع البلاد الأصلية، لم يعد الراب المغاربي (Maghreb Rap) يقتصر على إنتاج محلي خاص نشأ وتطوّر باستلهامٍ لشكل الراب الأميركي، بل صار اليوم موجة عالمية، وواحداً من الأطباق الرئيسية على لوائح مهرجانات الموسيقى الجماهيرية، أفريقياً، وفي جميع أنحاء العالم.
مقطع الفيديو لأغنيته الأخيرة "حجّار" (Heggar) يقود ناظم الراب الجزائري ديدين (Didine Canon 16) خافي الوجه، موكباً من الدراجات النارية والعربات العسكرية. يُميط اللثام، ليظهر ذا لحية حالكة وأسنان مهشّمة، ملامحه شديدة القسوة تثير الرعب. تتحلّق حوله، ما يُبدو أنها عصابة مهيبة من تجار المخدرات، يمشي بين أفرادها كما لو كان قائدها.
شكل الأغنية محمولٌ على نبض إيقاعي أقرب إلى التكنو والهاوس (House)، فيما النبض الإيقاعي هجين مُركّب، من نظم الراب الكلاسيكي Boom Bap السريع والمُسهب، وعناصر الراب الشائع في جنوب الولايات المتحدة، المعروف بـ Trap، ذي الشكل المينيمالي والتكراري.
أحد متحورات الـ"تراب" وهو الـ"إيمو راب" Emo Rap، أي الراب العاطفي، أو الشاعري، فيه يقترب النظم من الغناء حتى لا يكاد يعود نظماً، فيؤول غناءً صرفاً. هكذا، يتناهى أسلوب ناظم الراب التونسي نوردو Nordo، كما يظهر في إصداره الحديث "تبلينا"، حيث تتّشح الأغنية عامةً بالسوداوية وتعتريها الكآبة.
يوصل الفنان من خلال النظم، اللحن والأداء، حال الحسرة ومظاهر الانكشاف العاطفي لديه، بنبرة يعتصرها الأنين، وذلك في تعارض مع دور الفحولة التي أوحى بها الجزائري ديدين. لئن ظلّت أدوار الرجولة المرتبطة بشخصية الراب كلون فني جماهيري بادية لدى نوردو، إلا أن تلك الملامح ها هنا، تُمثّل ضمن إطار الفروسية، التي عادة ما تسمح لـ"الرجل القوي" أن يكابد الكبوات، كاشفاً عن مواطن الهشاشة لديه، عند تناوله مواضيع الحب أو الحنين.
بروح الـ"تراب" أيضاً، لكن مطعّمٌ بحيوية اللاتينو، أو موسيقى أميركا الجنوبية، يؤدي ناظم الراب المغربي طه الفحصي، والملقب بـ"طوطو" El Grande Toto أغنيته المصورة حديثاً Cueule Tapée، دور المراهق العاطل واللامبالي، متسكعاً على الشطآن الأطلسية للعاصمة السنيغالية داكار، حيث تُعد كوي تابيه، التي سُمّيت الأغنية باسمها، واحدة من واجهات البلاد البحرية المعروفة.
يتّسم نظمه للراب بغنائية مُعلّبة إلكترونياً على طريقة الهيب هوب الحديث، نصوصه خليط مغاربي من تعابير فرنسية ولهجات محليّة شمال أفريقية. في الشكل والمضمون، تتّخذ الأغنية من الساحل الإكزوتي في غرب القارة السوداء مُنطلقاً لها، ووجهة على حدٍّ سواء، إذ يُمثّل نظم الراب وإيقاعاته، ضمن هذا السياق، وحدة حال هوّياتية، سمراءَ أفريقية الملامح، بات الشباب المغاربي الصاعد يشعر بها، ويتماهى معها.
لكنّ الهوية الأفريقية ببعدها الجغرافي والثقافي، ليست وحدها ما يجعل فن الراب، بالنسبة إلى شبيبة المغرب العربي وسيطاً تعبيرياً للتماهي، وإنما الهوية الأفروأميركية أيضاً، ببعدها الطبقي والثقافي. نشأ الراب وتطور، كوسيلة بحوزة الأميركيين السود في سبيل التعبير عن هويتهم أولاً، ثم ثانياً، بغية عكس صراع طبقي مزمن يخوضونه، ضد تمييز عنصري وتهميش اجتماعي ممنهج ظلّوا يعانونه بأشكال متعددة ومتغيرة، منذ أن أصبحوا مواطنين أميركيين منتصف القرن التاسع عشر.
بإسقاط العلاقة الكولونيالية التي تربط شمال أفريقيا بفرنسا، يجد الشباب المغاربي في جدلية الصراع الأفروأميركي مصدر إلهام، ليس فقط لجهة مظاهر الحياة والإنتاج الثقافي، بل أيضاً لجهة المكاسب التي حققها السود داخل المجتمع الأميركي، على مدى كفاحهم الطويل، الذي تبلور حديثاً، من خلال حركة الحقوق المدنية، منتصف القرن الماضي.
من هنا، يبرز الجيل الثاني والثالث من المغاربة في فرنسا كمورد أساسي لموجة الراب إلى شمال أفريقيا، التي يبدو كما لو أنها سلكت طريق هجرةٍ معاكسة، من المهجر إلى الموطن الأصلي. فالأدوار التمثيلية التي يُقدمها اليوم ناظمو الراب في شمال أفريقيا، كديدين، نوردو وطوطو مستوحاة بالأساس من أنماط الحياة المهجرية، في الضواحي المهُمّشة للمدن الفرنسية الكبرى، حيث تتركّز الجاليات المغاربية لأكثر من مئة عام. تشهد في أزقّتها، فحولة رجال العصابات، عتيّ تجار المخدرات، وركام أزمات لأجيال، لم تُمنح فرصة اختبار المواطنة بصورة عميقة وأصيلة، فظلّت تتسكع على هامش الحياة. أدوارٌ، تمثلت بدايةً بحركة الراب الفرنكومغاربي في فرنسا، إذ كانت المدينة الساحلية الجنوبية مرسيليا، منذ الثمانينيات، معقلاً له، وأنجبت فرقاً رائدة، كفرقتي IMA وAlgérino.
أما عند الإطلالة على الطريق المُتّجهة شمالاً، من الجزائر تحديداً، إلى فرنسا وسائر أوروبا، فيمكن رصد موسيقى "راي" كلون غنائي محلي، شمال أفريقي، من المحتمل أن الراب المغاربي قد شكّل سيرورة تطورية طبيعية له. فالراي، بالأصل، قبل أن يجري تسليعه، هو غناءٌ مقاوم، نشأ سنة 1920 في وهران الجزائرية، كذراع فنية للحزب القومي الجزائري، المعروف بـ"جبهة التحرير الوطنية".
من هنا، تُعقد الصلة من جديد بين علاقة الجدلية الكولونيالية التي تربط المغرب العربي بفرنسا، وأشكال التعبير الموسيقية، التي اختارها مغاربة الأمس، من خلال الراي، ومغاربة اليوم عبر الراب، لإيصال صوتهم، وإبراز هويّتهم، أو إعادة إنتاجها من جديد، وذلك في ظل نُظم اقتصاد السوق التي باتت تتشابه، سواء أكانت في المهجر أم في الموطن الأصلي، لجهة غياب المساواة والتفاوت الهائل بين المراكز والهوامش، وبين الغنى والفقر.
لا يمكن اعتبار أغاني كل من ديدين ونوردو وطوطو، فنّاً هادفاً ملتزماً، أو ما يُعرف بـ"راب الوعي" Conscious Rap؛ فمن الواضح أنها تجارية، تستهدف السوق، وتسعى أولاً للربح. إلا أن الأدوار التي تُمثّل عبر تلك الأغاني، تُقدّم تنميطات ثقافية ميّزت الراب بوصفه فنّاً جماهيرياً ذا نبرة احتجاجية. بذلك، تعبّر عن شريحة متفاوتة من المغاربة الشباب، سواء من المهاجرين في أوروبا، أو المُقيمين في شمال أفريقيا.
المشكلة تكمن في أنّ التنميطات، وإن استندت جزئياً إلى الواقع وإلى التاريخ، أو جرى تبنّيها حتى من قبل أولئك ممن تستهدفهم، فإنها كثيراً ما تختزل التنوع والتلون واللاتجانس الذي يُميّز أيّ مجموعة بشرية، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وفي أي مكان من العالم، إلى صورة ثابتة جاهزة، أحادية وجزئية، لا تقول كلّ الحقيقة.