تتراجع الحريات في لبنان بسرعة، تكاد تتجاوز سرعة الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد منذ عام 2019. وتتطاول هذه الردة على حرية التعبير، الصحافيين، تماماً كما تطاول الناشطين على مواقع التواصل والكوميديين، وذلك بغطاء وتحريض من وزراء في الحكومة، ومن رجال الدين من مختلف الطوائف. وأمام انحدار البلاد نحو هوة سحيقة من القمع وتكميم الأفواه، تبرز في المدن الرئيسية وأحيائها، ما يشبه العصابات التي تعمل بإيعاز من مؤسسات دينية ومن رجال أعمال، وتحاول فرض الرعب على المواطنين تحت غطاء "قيم الأسرة" و"الحفاظ على الأخلاق".
هذا الواقع يترجم بشكل فعلي، باستدعاءات متكررة لناشطين وصحافيين وفنانين إلى التحقيق، وتهريبهم والضغط على عائلاتهم للتراجع عن موقف أو نكتة أو تصريح.
الأربعاء الماضي استدعى قسم المباحث الجنائية في بيروت الصحافية مريم ماجدولين اللحام، واحتجزها حتى ساعات الليل الأولى بعد شكوى شخصية تقدّم بها رئيس المحكمة الشرعية السنية العليا في بيروت، القاضي محمد أحمد عسّاف، علماً أن المباحث الجنائية غير مخولة بالتحقيق مع الصحافيين.
وبعد التحقيق، اشترط المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات على اللحام حذف منشور اتهمت فيه عسّاف بالفساد، لإطلاق سراحها، لكنّها رفضت، فطلب عويدات مداهمة منزلها، لإحضار هاتفها الشخصي، وهو ما حصل. وبعد المداهمة ادّعت القوى الأمنية أنها وجدت مواد مخدرة (حشيشة الكيف) موجودة في المنزل، لتحال أوراق الملف على مكتب مكافحة المخدرات المركزي، بعد إطلاق سراح الصحافية، بسند إقامة.
وكانت اللحام قد أعلنت، الثلاثاء الماضي، خبر استدعائها عبر "إكس"، وكتبت أنّ عساف ادعى عليها بـ"الذم والتحقير وحضّ أبناء الطائفة ضدّه". وتابعت أنّ السبب هو كشفها عن "انتفاع القاضي عسّاف شخصياً من أحد الخصوم (حسم 40% من أقساط الجامعة الخاصة بأولاده - للجامعة العربية التابعة للوقف) في قضية نظر فيها كرئيس للمحكمة الشرعية العليا، بما يشكل مخالفة للقانون نظراً لتنازع المصالح".
التفاصيل المرافقة لقضية اللحام، أثارت الرعب في أوساط الصحافيين اللبنانيين، خصوصاً أن تجمع نقابة الصحافة البديلة كشف في بيان أن عناصر المباحث الجنائية وبإشارة من النيابة العامة التمييزية، فتشوا منزلها بغياب محاميها، واستحوذوا على حاسوبها ودخلوا إلى حسابها في "فايسبوك" وحذفوا أحد المنشورات المتعلّقة بشكوى "دار الفتوى"، ما اعتبره التجمع "تعدياً صريحاً على الخصوصية ومخالفةً للقانون وتجاوزاً لحد السلطة الممنوحة للنيابية العامة".
تأتي قضية اللحام، كجزء من مشهد سوداوي كامل، يختصر الوضع اللبناني. فالأسبوع الماضي، انشغل اللبنانيون بقضية أخرى، وباسم آخر: نور حجار. ممثل كوميدي، يقدّم عروضاً حية. بدأ الهجوم على حجار، قبل أسبوعَين، بعدما انتشر على "إكس" ("تويتر" سابقاً) مقطع فيديو من أحد عروضه يسخر فيه من الأوضاع الاقتصادية لجنود الجيش اللبناني التي دفعت الكثيرين منهم للعمل سائقين في خدمات توصيل الطلبات.
أدّى ذلك إلى استدعاء الشرطة العسكرية لحجار، وإخضاعه لتحقيق استمرّ إحدى عشرة ساعة، قبل أن يطلق سراحه، من دون إغلاق الملف. كذلك، استدعي المسؤولون عن مسرح أوكوورد، الذي استضاف عرض حجار، ومثلوا بدورهم، أمام الشرطة العسكرية.
وزادت الأمور سوءاً بالنسبة للكوميدي، بعد انتشار مقطعٍ من عرضٍ آخر له يتطرق فيه إلى سورٍ من القرآن الكريم. وتقدم القاضي الشرعي الشيخ وائل شبارو، بإخبار ضد حجار أمام النيابة العامة الاستئنافية في بيروت بحجة "استهزائه بآيات من القرآن الكريم". ولم تتأخر دار الفتوى، ممثلة بالشيخ أمين الكردي باللحاق بركب المتضايقين من نكتة، فتقدّمت بإخبار إلى النيابة العامة التمييزية ضدّ الكوميدي.
أوقف حجار بقرار من النائب العام التمييزي غسّان عويدات، ونقل إلى قسم المباحث الجنائية في وزارة العدل للتحقيق، ليطلق سراحه هو الآخر ليلاً بعد حملة ضغط كبيرة من قبل ناشطين وحقوقيين، لكن بسند إقامة كذلك.
في حديث مع المحامية والحقوقية ديالا شحادة (محامية اللحام وحجار)، تقول لـ"العربي الجديد"، إن "القضاء يجب أن يكون أكثر حكمة وعمقاً في المسائل التي تتعلّق بحرية التعبير، ولا ينساق إلى أي تحرّك شعبوي من فئات لا تملك الوعي والبعد الكافيَيْن لفهم عمق مفهوم الحريات العامة والفردية وتحديداً حرية التعبير الذي هو حق مكفول بالدستور".
وتشير شحادة إلى أن "أخطر ما نشهده هذه الفترة، هو ظهور ما يشبه المطاوعة في الطوائف المختلفة، وتحديداً ما يعرف بجنود الرب (في بيروت)، وجنود الفيحاء (طرابلس شمالاً)، إذ إنها جميعها مظاهر خارجة عن القانون تبيح لنفسها التنمّر والاعتداء البدني والمعنوي على الناس بحجة حماية قيم يصار فهمها على ذوقهم".
وترى شحادة أن القضاء عليه أن يتحرّك لاحتواء هذه المظاهر والحركات وإلّا فقد نشهد بداية لجرائم ضد الناس في إطار التعبير الحرّ عن آرائها، مشددة على أن القضاء يجب أن يكون مرجعاً لوضع حدٍّ لهذه الشعبويات التي ترقى إلى مجموعات مسلّحة وغير مسلّحة ترتكب الجرائم، وألّا يكون أداة بيد أصحاب السلطة أو بيد المرجعيات الدينية.