استمع إلى الملخص
- السياحة الثورية في سوريا: بعد سقوط نظام الأسد، أصبحت سوريا وجهة للسياحة الثورية، حيث يزور الصحافيون والمؤثرون مواقع الثورة مثل درعا وحمص، لفهم تاريخ الثورة وتوثيق قصص النضال.
- التحديات والفرص: تواجه السياحة الثورية تحديات مثل التجارية المفرطة والتهديدات الأمنية، لكنها قد تسهم في إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية عبر توليد الإيرادات وحماية التراث الثقافي.
يقترح موقع History Hit عناوين جاذبة ومشجعة لزيارة الصين بعد الثورة الشيوعية والحرب مع اليابان، وزيارة جنوب أفريقيا وغيرها من الدول التي شهدت ثورات شكّلت انتصارات على المستعمرين، وأرست أوطاناً جديدة. هذه الإعلانات، رغم إثارتها، تقدّم مواقع تلك الصراعات باعتبارها مزارات سياحية للراغبين في توثيق لحظاتهم، وسط "مناخ ثوري"، والتقاط صور تذكارية للأجيال القادمة.
قد تبدو هذه الإعلانات مثيرة في عناوينها وأماكن الزيارات، باعتبارها أصبحت مواقع سياحية، ومزارات للراغبين بتأريخ لحظاتهم، وسط أجواء الثورة، والتقاط صور تذكارية تروي قصص الصراع والانتصار للأجيال المقبلة. ومن الجرأة بمكان، بالنسبة لنا، تسمية هذا الفعل بـ"السياحة الثورية"، التي تعتمد، بحسب المشاهدات والمحتوى المعروض، على زيارة أماكن شهدت حروباً وصراعات طويلة، بما تحمله كلمة الحروب من تفاصيل، وتحويل هذه الزيارات إلى محتوى بصري يوثّق تفاصيل الأماكن ومرويات السكان، بما يناسب ذوق المشاهد وتفضيلاته وفضوله.
ينطبق هذا المفهوم على الحالة السورية بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وسقوط منظومته الأمنية الاستخباراتية التي كانت عائقاً أمام الوصول الفعلي إلى سورية بجغرافيتها الواسعة، إذ انقسمت البلاد طيلة 13 عاماً سياسياً وعسكرياً إلى "مناطق محررة" و"مناطق النظام"، لكنها أصبحت الآن متاحة أمام الزوار، سواء من السوريين أنفسهم، أو من الأجانب، باختلاف اهتماماتهم ومشاربهم الثقافية والمهنية.
في الحالة السورية، يمكن أن ننظر إلى السياحة الثورية بوصفها شكلاً من أشكال السفر المستوحى من التحولات السياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها البلاد فور سقوط الأسد. هذا الاتجاه بدأ يبرز بوضوح مع توافد مجموعة من الصحافيين والمراسلين والمؤثرين السوريين والأجانب على حد سواء، وزيارتهم عدداً من المناطق والنقاط المرتبطة بثورة الشعب السوري. يجذب هذا النوع من السياحة الساعين إلى التفاعل مع تاريخ ونضالات وانتصارات السوريين الذين خاضوا معركة طويلة ضد نظام الأسد.
في السياق السوري، تختلف السياحة الثورية عن السياحة الثورية في أي مكان آخر. فهي تركز على زيارة مواقع الحراك السياسي والعمليات العسكرية، أو المناطق التي شهدت تغيراً اجتماعياً وديموغرافياً كبيراً. تبدأ هذه الرحلات من الحواجز الأمنية التي نصبها النظام للتضييق على السوريين وتنفيذ اعتقالات بحق معارضيه (مثل حاجز الفرقة الرابعة على طريق دمشق ـ بيروت)، وتصل إلى المعتقلات الأكثر ظلمة ووحشية في تاريخ سورية والعالم العربي، وليس انتهاءً بالمدن والبلدات السورية التي انطلقت منها هتافات الثورة السورية (درعا، وريف دمشق، وحمص، وحماة، وإدلب). تشكّل هذه النقاط أبرز المواقع التي ظهرت في فيديوهات الزوار، الذين أبدوا دهشة كبيرة من وحشية النظام البائد، وعظمة الثورة السورية التي أطاحت بحكم دام أكثر من 50 عاماً بقبضة حديدية شرسة.
ينجذب "السياح" الجدد برغبتهم في مشاهدة التاريخ، والوقوف على لحظات الانتصار، وتدوين سرديات سورية محلية حول الظلم والاعتقالات التعسفية والتدمير وكم الأفواه. ويتقاطع هذا العمل مع السياحة الحمراء (Red Tourism)، التي تنطوي على السفر إلى أماكن مرتبطة بالموت والمأساة، والحالات الثورية التي رافقتها الإبادات الجماعية والتطهير العرقي، كما في حالة البوسنة والهرسك، حيث استهدف التطهير العرقي الذي نفذته قوات صربية في المناطق التي تسيطر عليها، البوسنيين الذين تعرضوا لإبادة جماعية، وترحيل قسري، واعتداءات جنسية واسعة النطاق، وتعذيب وحشي، ونهب وتدمير للممتلكات الثقافية والدينية.
عند مشاهدة ردات فعل زوار سورية بعد سقوط الأسد، نجد أن السياحة الثورية في البلاد هي استكشافية أساساً، حيث يسعى المسافرون -سواء كانوا سوريين مغتربين أو محليين أو أجانب- إلى فهم الثورة التاريخية وأسبابها ونتائجها، من خلال زيارة المناطق التي بدأت منها الثورة، والحديث مع أهلها، ومعرفة قصصهم في الأيام الأولى من الاحتجاجات، وربط الأحداث ببعضها، بحيث يصبحون على دراية أوسع بسيرورة الثورة ونشأتها، ونقل هذه الدراية إلى المهتمين والمتابعين.
تنقسم الحالات "السياحية" إلى نموذجين: الأول هو الداخلي، وفيه يتبادل السوريون زيارة محافظات أخرى لمعرفة ما حلّ بها بعد 13 عاماً من الثورة والحرب والعمليات العسكرية. فيزور فرد دمشقي، أو حلبي، أو حمصي، مدينة إدلب أو درعا، أو العكس، ليرى مآلات هذا الحراك وكيف تغيّر المكان. تُنظم اليوم، وعلى غير العادة، رحلات ومجموعات سياحية مع "برنامج سياحي" إلى إدلب التي حُرم السوريون من رؤيتها على مدار 13 عاماً. وتوفر الحملات ذاتها رحلات إلى بُصرى الشام في درعا، وإلى تدمر وآثارها التي شهدت عمليات قصف وتدمير ممنهجة لمحو الأثر الثقافي للبلاد، سواء من الطيران الروسي، أو سلاح المدفعية السوري.
يرى السوريون في هذه الحالة الاختلافات التي طرأت من ناحية تبدّل الثقافات، وطبائع الناس، وطبيعة العلاقات، والتبادلات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية. قصد سوريون من مختلف المناطق القصر الجمهوري ليروا بيت الأسرة التي استطاعت احتكار الحكم لأكثر من 50 عاماً. أصبح قصر المهاجرين وقصر تشرين مكانين للسياحة والتصوير والتقاط الصور وتسجيل الفيديوهات، لتكون شاهدة على انتصار الشعب على الجلاد، وانقلاب الآية على الحكم، وأضحت "غرفة نوم القائد" محطة لا بد لمن يزور دمشق أن يمرّ بها، ويطّلع على "ذكريات" القائد السفاح.
إضافة إلى ذلك، يعزز الانتقال من محافظة إلى أخرى شعور الانتماء إلى الثورة عند السوريين أنفسهم، فيشاركون بعضهم الاحتفالات بالنصر في الساحات، وينتقلون من مستوى الطائفية والمناطقية إلى مستوى "السوري الحر". هكذا يرى السوريون اليوم صورة مختلفة لإدلب، ويرون الجامع العمري في درعا الذي شهد انطلاق أول تظاهرة في البلاد، ويشاهدون ساحة الساعة في حمص التي كان اعتصامها في إبريل/نيسان عام 2011 شاهداً على بطش جهاز أمن نظام الأسد ووحشية شبيحته، ويرونها موحدة من دون حواجز وكتل إسمنتية تفصل بينهم.
أما النموذج الثاني فهو خارجي، فيه من الأهمية ما فيه، بحكم مفاهيم القوة الناعمة، وإعادة توسيم سورية بعد سقوط الأسد (Rebranding Syria)، بعد زيارة بعض الرحالة العرب من الجيل الشاب إلى البلاد، الذين يتابعهم ملايين المستخدمين عبر المنصات، وتسجيلهم فيديوهات احتفال مع السوريين بالاحتفال بنصر أغر. تحكي هذه الزيارات السياحية قصة سورية تحت حكم نظام الأسد المخلوع، ويشاهدها ملايين المستخدمين من الجيل الأهم حالياً، وهو جيل زد.
يوضح سياق الثورة السورية، التي بدأت باحتجاجات سلمية تطورت إلى معارك وعمليات عسكرية دامية، الإمكانات الكبيرة للبلاد. فبعد انتهاء الصراع، يمكن أن تلعب هذه السياحة دوراً حيوياً في إعادة إعمار سورية، وتعزيز المصالحة الوطنية، والحفاظ على ذاكرة الثورة، من خلال توليد الإيرادات، وتعزيز التضامن المحلي والدولي، الذي يكمن في إحياء الاقتصاد المحلي، وحماية التراث الثقافي للثورة والمناطق الثورية، وحفظ الشهادات الحية على ظلام حقبة آل الأسد.
يواجه هذا النمط من السياحة في سورية مجموعة من التحديات التي تهدد أهدافه النبيلة، وتتمثل في التجارية المفرطة، وتسليع المعاناة وتحويلها إلى "محتوى بيّاع"، وتسطيح التجربة الثورية، وتضارب المصالح، مع الحفاظ على الأصالة التاريخية للمواقع وشهادات الناس المحليين. ويمكن الحديث هنا أيضاً عن استغلال المحتوى الذي قد يؤدي إلى تزييف الروايات، وانتحال الهوية، واستغلال الصور، وانعدام الأمن الذي يشمل تهديدات بالخطف، وحالات فردية تشمل العنف المسلح والجريمة. لتجاوز هذه التحديات يجب وضع ضوابط صارمة على التجارة، والتحقق من صحة الروايات، وحماية حقوق الضحايا والمغيبين قسرياً، وتعزيز الأمن، وتوعية الزوّار بأهمية هذا المحتوى باعتباره وثائق تأريخية.