يُصرّ أناسٌ عديدون، بينهم عاملون/عاملات في شؤون ثقافية وفنية، على اعتبار الفيلم السينمائيّ رسالة. يشمئزّون من كلّ فيلمٍ غير مبنيّ على رسالة. السينما، بالنسبة إليهم، داعية خير وحق وجمال، فقط لا غير. يغضبون من مخرج/مخرجة يصنع فيلماً، يقول مختلفاً أو متناقضاً عما يريدون، كأنّ المخرج/المخرجة يجب أنْ يكون ناطقاً رسمياً باسم معتقداتٍ وأحاسيس وتأمّلات لهم/لهنّ، فقط لا غير. بهذا، يقضون على ما يملكه المخرج/المخرجة من ذات وروح وتفكير وتأمّلات وانفعالات ورغبات وهواجس وتساؤلات، وهذه كلّها تُساهم في إنجاز أفلامٍ، لا علاقة لها بأي رسالة، فللرسائل وسائل أخرى لإرسالها، كـ"مركز البريد"، و ـ بحسب التقنيات الحديثة ـ الـ"إيمايل" والـ"واتساب" مثلاً.
أسوأ من هذا كامنٌ في اعتبار فيلمٍ ما "تكريماً" لشخصية، تُعتَبر أيقونة. كأنّ كلّ فيلمٍ يُنجز عن هذه الشخصية/الأيقونة يجب أنْ يُكرّمها فقط لا غير. بهذا، يُرفَض المخرج/المخرجة عند تفكيكه تلك الشخصية وأيقونتها؛ أو عند إعادة تشكيلها، وفقاً لما يراه ويشعر به إزاءهما (الشخصية وأيقونتها)؛ أو عند طرح أسئلة، قديمة أو جديدة، عنهما. بهذا، لن يختلف قائلو/قائلات التكريم عبر السينما عن أنظمة قامعة، وثقافات قامعة، وإيديولوجيات قامعة، تمنع كلّ تساؤل يمسّ الشخصية، إنْ تكن حاكمة أو زعيمة ثقافة وفنون، وهذا أسوأ من حاكمٍ في السياسة والاقتصاد والاجتماع. الأسوأ من هذا الأسوأ، عندما يبدأ قائلو/قائلات "سينما التكريم فقط لا غير" كلامهم بتأكيدٍ، مفاده أنّهم/أنهنّ ضد "تأليه" المبدعين.
"شقراء" (2022) للأسترالي أندرو دومينيك (1967)، المستند إلى رواية بالعنوان نفسه (2000)، للكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس (1938)، يتناول شيئاً من حكاية مارلين مونرو (1926 ـ 1962)، فيُثير نقاشاً بأساليب مختلفة، يجمع غالبيتها الساحقة تناسياً أو تغاضياً عن كون الرواية متخيّلة، رغم ارتكازها على وقائع، لن تحول دون إعمال الخيال والتفكير. بعض منتقدي "شقراء" يقول إنّ الفيلم "يُفترض به" تكريم الأيقونة فقط لا غير. التكريم جزءٌ من السينما، لا السينما كلّها. التكريم بعض السينما، لا اختزالٌ لها. التكريم ينبثق، أحياناً، من علاقة، ذاتية وانفعالية وفكرية، بين مخرج/مخرجة وشخصية/أيقونة. لكنّه (التكريم) لن يكون كلّ السينما، لأنّه جزءٌ، وجزءٌ صغير للغاية، منها.
قولٌ كهذا يتوافق، إلى حدّ كبير، مع مقولةٍ تتّهم فيلماً (وأشياء أخرى أيضاً) بأنّه "تشويه لسمعة البلد"، المصنوع فيه الفيلم. أيكون فيلمٌ عن شخصية/أيقونة تشويهاً لها ولسمعتها؟ إنْ يحصل هذا، فالفيلم محكومٌ بنقدٍ ونقاشٍ، لا بتهجّم وشتمٍ مبطّنين أو مباشرين. شخصية مونرو أيقونة، رغم أنّ كثيرين/كثيرات غير مُكترثين بأوصافٍ وألقابٍ كهذه، لن تمنعهم من قراءة الشخصية وفقاً لما يرونه ويُفكّرون به ويتأمّلونه، في الشخصية أساساً، وفي معنى تحويلها إلى أيقونة، وفي كلّ ما يتعلّق بها.
لا أحد/شيء يعلو على حرية الخيال. هذا نقاشٌ يُفترض به أنْ يكون محسوماً. حرية الخيال قبل حرية التعبير، أو معها على الأقلّ. السينما غير مُلزمةٍ كلّها بالتبعية لأحد/لشيء. بعضها القليل يُكرِّم، وأفلامٌ للأميركي جون واين (1907 ـ 1979)، والسوفييتي سيرغي أيزنشتاين (1898 ـ 1948)، والألمانية النازية ليني ريفنستال (1902 ـ 2003)، الملتزمة تكريماً وتمجيداً لأشخاص وثقافة وأفعالٍ محدّدة، تبقى مهمّة رغم انبهارها بما ومن تُمجِد وتُكرِّم. لكنّ هذا جزءٌ بسيطٌ من السينما، لا كلّها. هذا غير لاغٍ السينما، بل حاضراً فيها.
أندرو دومينيك يريد ترجمةً سينمائية، يكتبها بصُورٍ وتوليف ومعالجة، لروايةٍ تُثير فيه إعمال خيال ورغبة قول، عن شخصية أيقونة، قابلة لتفكيك ومُعاينة. هذا، بالنسبة إلى البعض، مرفوضٌ، فيُحارَب ويُشتم، ولو بمواربة وتحايل.
السينما تفكيك وسجال وإعادة بناء وطرح أسئلة. التكريم عابرٌ، ومعظم التكريم، لا كلّه طبعاً، غير فاعلٍ كثيراً.