الاهتمامات السينمائية، المنسجمة واهتمامات ثقافية وفكرية واجتماعية ومعيشية، التي يلتزمها اللبناني ماهر أبي سمرا في اشتغالاته الوثائقية، منبثقةٌ من خرابٍ مُقيم في بلد وناس واجتماع، ومن تساؤلاتٍ يجهد في كشفها ومناقشتها، محاولاً الإجابة عنها، وإنْ تبقى الإجابات معلّقة، فلا شيء محسوم ونهائي، وهذا أحد أبرز جماليات السينما.
البيئة عبر الإفرازات القاتلة للنفايات المرمية على شاطئ البحر، في وقتٍ باكرٍ بُعيد النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، في "إعمار على الموج" (1996)؛ معنى التحوّل، السياسي/العقائدي الثقافي، وما يُنتجه من تأثيراتٍ اجتماعية وحياتية، عبر حوار مع "نساءٍ من حزب الله" (2000)؛ أسئلة فردية تتناول تاريخاً ونضالاً وعلاقات ونتائج، متأتية كلّها من تجربة العمل في "الحزب الشيوعي اللبناني" تحديداً، في "شيوعيين كنّا" (2010)؛ واقع عاملات أجنبيات في المنازل اللبنانية، قانوناً وآليات جلبهنّ إلى لبنان، وعيشهنّ متنوّع الأشكال مع أناسٍ مختلفين، في "مخدومين" (2016).
هذه نماذج. اختزال كلّ واحد منها غير حائل دون التنبّه إلى مسألتين أساسيتين: أهمية الموضوع المختار، وكيفية تناوله بصرياً وثقافياً وبشرياً؛ وتطوّر واضح في استخدام أدوات الاشتغال السينمائي، وهذا طبيعي لمن يجعل الوثائقي مرآة ذات وجماعة، وأداة بحث وتساؤل دائمين في/عن أحوال بلد واجتماع وأفراد.
هاتان المسألتان حاضرتان في جديد أبي سمرا، "الشاطئ الآخر" (62 دقيقة، 2022)، المشارك في الدورة الـ18 (27 إبريل/نيسان ـ 7 مايو/أيار 2023) لمهرجان "شاشات الواقع" في بيروت (تنظيم "جمعية متروبوليس سينما"، بمشاركة "الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون"): أهمية طرح، أو إعادة طرح سؤال العلاقة اللبنانية بالمعوّقين/المعوّقات، غير لاغيةٍ بساطة اشتغال وثائقي، والبساطة أساسية في منح الموضوع أولوية النقاش، في الفيلم ومعه، ومع شخصيتيه الأساسيتين، سيلفانا اللقيس ومحمد لطفي، ومع المخرج نفسه، وإنْ مواربة. نقاش يبدأ بمقاييس الجمال ومفاهيمه عند الفينيقيين واليونان، في المتحف الوطني اللبناني، ينتقل بعدها إلى حوار بين اللقيس ولطفي، ثم التجوّل في بيروت وغيرها، وفي تاريخ وراهن، وفي قوانين تمارَس رغم أنّها غير مكتوبة (سلوك اجتماعي شبه عام في التعامل مع المعوّقين/المعوّقات جسدياً وبصرياً).
سيلفانا مُقعدة، ومحمد أعمى البصر. تجلس على كرسيّها المتحرّك، التي يقودها محمد وفقاً لإرشاداتها، فهما يتجوّلان معاً، غالباً، بينما تقود سيارتها بين حين وآخر. تفاصيل يومية (عن الرقص وقيادة السيارة والسهر مع أصدقاء/صديقات... إلخ) يُدخلها ماهر أبي سمرا في السياق الدرامي لنصّه الوثائقي، المُشبع بمعلومات/معطيات تاريخية، يوردها محمد في مقطع يكتبه على جهاز "لابتوب" خاص به: "لم يكن يُنظر للأشخاص المعوقين في مجتمعاتنا كفئة اجتماعية واحدة ذات هوية مشتركة. عزلنا التدريجي إلى المآوي والمؤسّسات الرعائية بدأ مع وصول الإرساليات الأجنبية، التي فصلتنا عن بيئتنا على أساس إعاقتنا. ومع استقلال لبنان، تبنّت الدولة الناشئة منطق العزل ذاته".
لكنّ "الشاطئ الآخر"، المعروض أولاً في الدورة الـ45 (24 مارس/آذار ـ 2 إبريل/نيسان 2023) لـ"سينما الواقع" (باريس)، غير مكتفٍ بفعلٍ كهذا، تمارسه إرساليات أجنبية ودولة ناشئة. في البداية، تروي سيلفانا اللقيس شيئاً من حكايتها مع الإعاقة، من خلال الأم والبيئة الضيّقة المحيطة بهما. لاحقاً، يُخبر محمد لطفي نظرة الأب إليه، تلك التي ستدفعه (محمد) إلى سجال صاخب مع والده، الذي "ينعته" كمريضٍ أمام متسوّلة. الشخصي/الذاتي يتداخل مع العام، لأنّهما يُشكّلان معاً حالة لبنانية تُقصي كلّ "مختلفٍ" عن قواعد غير مكتوبة، متأتية من موروث تربوي وسلوكي واجتماعي متخلّف وجاهل.
مضمون الفيلم عصيٌّ على اختزال يُكتب في تعليقٍ نقدي. فيه أحوال بيئات لبنانية مُصابة بجهل وتعالٍ وانشقاقات في روح ونفسٍ ووعي، وفيه أيضاً نمط عيش ومواجهة. أسلوب أبي سمرا في تنفيذه غير مدّع، فالبساطة أهمّ في مقاربة حكاية كهذه، لأنّها (البساطة) أفضل أداة لكشف الحاصل بهدوء وتحدّ ومواجهة. الأرشفة التأريخية قليلةٌ، لكنّها كافية لتبيان أصل المأزق، الأخلاقي أولاً. الحوار بين اللقيس ولطفي دائم ومتشعّب، لكنّه منبثقٌ دائماً من أحوال مرتبطة بالإعاقة، ثقافة وفكراً وإحساساً. غضب الثنائي وتعبه غير لاغِيَين قوة تحدّ ومثابرة، مع ما يتطلّبانه من جهد وتعب، وما يُثيرانه من قرفٍ أحياناً، إزاء بيئة/اجتماع معطوبين.