يُحْدِثُ أوّلُ دخولٍ إلى صالة سينمائية، بعد إغلاقٍ تامٍ منذ 9 أشهر، انطباعاتٍ تمزج السينما باجتماعٍ وثقافةٍ وسلوكٍ. في الصالة 6 مُشاهدين فقط. الفيلم المعروض لبنانيٌّ، بعنوان "جدار الصوت" (2019) لأحمد غصين. في صالة مجاورة، فيلمٌ لبنانيّ آخر بعنوان "1982" لوليد مونِّس، يأتي البعض إليه لمُشاهدة نادين لبكي لا الفيلم، إذْ تسأل شابّة عن مكان الصالة تلك، بثقةٍ مفرطة بالذات: "أين يُعرَض فيلم نادين لبكي؟".
6 مُشاهدين في صالة تضمّ نحو 300 مقعد. "جدار الصوت" يُثير سجالاً لدى البعض قبل أنْ يُشاهَدْ، بسبب "أمكنة تصوير". اللحظة الآن مختلفة تماماً. إقفال الصالات مسألة عالمية. دولٌ غربيّة تُتقن تعاملاً عقلانياً وجدّياً مع وضعٍ كهذا، بينما لبنان يتخبّط بقرارات يُراد منها إخفاء انعدام المسؤولية والوعي في سلطةٍ تتفنّن في قهر ناسها كلّ لحظة. اعتمادُ تباعدٍ بين المقاعد غير منطقي، فالمشاهدون، إنْ يتكاثر عددهم في صالة واحدة، سيبقون متقاربين، إلى حدّ ما، من الجوانب المختلفة، كأنّهم محاصرون من الجهات كلّها، مع مسافةٍ لن تُتيح راحةً لمرتَبِك أمام سطوة وباءٍ، يُنتَظَر قريباً بدء مرحلة العلاج الطبّي منّه.
التجربة جميلة، رغم هذا. الصالة كبيرة، والشاشة أيضاً. مُشاهدة فيلمٍ في المكان الأصلي للمُشاهدة السينمائية ضرورة. التقنيات الأخرى مُفيدة، لكنّ الصالة السينمائية مساحةٌ مطلوبة لمُشاهدةٍ أفضل. هذا سؤال مطروح مراراً، ومناقشته متكرّرة. الرغبة في انسجامٍ كامل مع فيلمٍ في صالة تتعرّض لانكماشٍ وتعطيل، فلبنانيون كثيرون غير مُدركين معنى الانسجام والتواصل والصمت في صالةٍ تحتاج إلى انسجام وتواصل بين مُشاهد وفيلمٍ، وإلى صمتٍ يُعزِّز هذين الانسجام والتواصل. مع "جدار الصوت"، المكان فارغٌ بسبب وباءٍ، والمشاهدون الـ6 مُتفرّقون فيه، وصمتهم فاعلٌ في بلورة انسجام وتواصل مع أول روائيّ طويل لأحمد غصين.
هذا يُتيح متابعةً أدقّ لتفاصيل في ملامح وتعابير 4 ممثلين وممثلة، غير مُحتاجين إلى كلامٍ رغم أنّ الكلام حاضرٌ عند الحاجة إليه. الدقائق التي يعيشها هؤلاء في منزلٍ، يحتلّ جنود إسرائيليون طابقه الأعلى، طويلة ومفعمة بمشاعر وحالاتٍ متوافقة مع قلق اللحظة، ورغبة النجاة، وانعدام كلّ أفق. تصويرٌ يكشف قدرة الصمت على بوحٍ أجمل، ولقطات تحاصر شخصياتٍ حيّة في جغرافيّتها المحتلّة، قبل انكشافها (الشخصيات) عارية أمام ذاتٍ وبلد وتاريخ وعلاقات.
الفيلم يتطلّب قراءة نقدية هادئة، خارج سجال مُفتعل، يتورّط فيه مَن يجد نفسه الآن في صالةٍ كبيرة لمُشاهدته مُجدّداً على شاشة كبيرة، في البلد المعنيّ به أصلاً، وبمخرجه ومشاهديه. اللحظة غير مناسبة لنقاشٍ مطلوب. العودة إلى صالة سينمائية تمتلك شرعية المتعة، وإنْ لوقتٍ قليل. لكنّها تطرح مرة أخرى سؤال الاستمرار في مُشاهدة الأفلام في صالة سينمائية لاحقاً. قلّة المشاهدين (سبب ذلك غير مرتبط بإجراءات صحّية فقط، فعلاقة اللبنانيين بالسينما عامة، وبسينما لبنانية تحديداً، غير سوية، باستثناء علاقة غالبيتهم الساحقة بأفلامِ تسليةٍ مسطّحة) كارثةٌ بحقّ السينما والفيلم وصانعه، وبحقّ مشاهدين يريدون سينما لا لتسليةٍ، بل لمتعةٍ وتساؤلات وتأمّل.