لا شك في أنّ أيّ خطاب صارم حول وضعية الإعلام المرئي في مغرب اليوم ومدى قدرته على التأثير العيني المباشر، فيما يشهده البلد سياسياً واجتماعياً وثقافياً، يُجهض من تلقاء نفسه أمام ركام الشوائب القانونية والأخلاقية والمهنية، فحجم التفاهة المُخيّمة على هذا الوسيط الإعلامي تجعل النقاشات وكل الخطابات ــ رغم أهميتها ــ فارغة، بحكم سطوة أسلوب ترفيهيّ يُلخّص الصحافة المرئية في كونها عبارة عن تغطيات آنية ومتابعات لأنشطة سياسية رسمية، لهذا تجد بعض الإعلاميين والإعلاميات يتسابقون إلى الصفوف الأمامية، لتلقّي الفُتات الخبري الكاذب والهَجين الذي يتشدّق به فقهاء السياسة حول "إصلاحات" البلد.
وكأنّ هذه القصاصات الصحافية المرئية هي التي ستصنع مستقبل المغرب الإعلامي، كما تصوغ أفقه بجدارة أقلام حرّة ونزيهة داخل الصحافة المغربيّة المكتوبة. لكن بالنظر إلى وجوه الإعلام المرئي الذين عرفهم المغرب منذ نهاية السبعينيات، مقارنة بما يحدث اليوم، فإنّ الأمر لا يزداد إلا بؤساً وهشاشة. فقد ولى الزمن الذي كان فيه الإعلامي مثقّفاً وصاحب مشروع صحافيّ لا يُداهن فيه حزباً أو مؤسّسة أو سلطة، بقدر ما يظلّ متشبّثاً بمواقفه تجاه مسؤولياته وطبيعته المهنية والاجتهاد أكثر في أنْ تغدو مواده البصريّة امتداداً عميقاً لما يحدث في الواقع المغربي، خاصّة وأنّ أغلب هؤلاء يجدون سهولة في التنقّل بين الإعلام المرئي والمكتوب، لأنّ خلفياتهم المهنية ليست تقنية ترتعش وراء الكلمة، ولكنّها ثقافية وفكرية، ما يجعل خطابها قوياً ومنعشاً ومؤسّساً لا يركن إلى ازدواجية الخطاب وادّعاء الموضوعية، فالصحافي مهما حاول ذلك لن يكون موضوعياً، لأنّ هواجسه الذاتية على مستوى الكتابة تجعله ينصاع تلقائيّاً إلى الكتل الجماهيرية، لا أنْ يكون لسان حالها فقط، ولكن كـ"الشرطي" المُقيم بين حدود المجتمع يرصد أهواله ونتوءاته، من دون التخلّي عن مواقفه وطابعه السجاليّ.
ولى الزمن الذي كان فيه الإعلامي مثقّفاً وصاحب مشروع صحافيّ لا يُداهن فيه حزباً أو مؤسّسة أو سلطة
لا سجال ولا مواقف داخل الإعلام المرئي في المغرب. "المواقع" بدل "المواقف" هي الشغل الرئيس لهذا الخطاب البصريّ. صحافيون وصحافيات يُغيّرون مواقع عملهم، من دون أيّ شيء يُذكر في سيرتهم وأعمالهم. "المحظوظ" هو من يعثر على جهة سياسية أو سلطويّة تدفع به إلى الأمام، على أساس أنّه وجهٌ "إعلامي" مؤثّر. فالـ "تأثير" هنا يُقاس بحجم الولاء والتواطؤات مع المؤسّسة الرسمية وتطبيق مشاريعها وبنودها، من دون طرح أي أسئلة حول محتوى المواد التي تُقدم إلى الجمهور المغربي.
هذا الأمر عاملٌ مساعد بالنسبة لبعض الإعلاميين من أجل الترقّي السريع في وظائفهم، إذْ تصبح المهنة سهلة (أليست الصحافة مهنة المتاعب؟)، والدولة فرحة بهذا الإنجاز الذي يُحقّقونه لها، بل إنّها تسعى جاهدة إلى اختيار وجوه تُؤثّث الصورة وتنجز لها تغطيات رسمية في بلدان أخرى، وهي في مجملها "تقارير" أشبه بفروض مدرسية لندواتها وحفلاتها ولقاءاتها. لكن من حين لآخر، تخرج بعض الإعلاميات للتّباهي بهذا الاختيار على أساس أنّه تتويج لمسارها "الإعلامي"، أمام صحافة مكتوبة تلهث وراء الصمت والتستّر على ما تقوم به من اجتهادات وأدوار طلائعية في تغذية الرأي العام، وهي تنقل للقارئ قصصاً وحكايات من قاع المجتمع المغربي، لا سيما وأنّ هذه الوجوه الجديدة هي ما يؤسّس صورة وشرعية هذه الصحافة اليوم ويجعلها قادرة على فهم الرجّات العميقة التي ألمّت بها في الآونة الأخيرة، بحكم ما يُمارس عليها من لدن السلطة من تضييق وخناق مقارنة بالإعلام المرئي الذي هو في ملك الدولة، يصنع لها خطابها وزلّاتها ومصائبها.
لكن أمام عجز الإعلام المرئي، تبرز أهميّة بعض الوجوه المغربيّة التي تروم إلى صناعة المحتوى داخل مواقع إلكترونية وشبكات وسائل تواصلها الاجتماعي. إنّها تصنع الحدث المغربي إعلامياً، إذْ رغم أنّها تتلصّص على أخبار لا طائل منها وتجري أكثر وراء الـ "بوز"، لكنّها مع ذلك، تنزع يومياً نجومية التلفزيون الرسمي بقنواته وسائله الإخبارية المدعّمة بأموال الدولة التي لا تزداد إلا ضعفاً وتشنّجاً في مرآة شبح صنّاع المحتوى وهم ينقلون قصصاً جديدة وحقيقية للناس في بيوتهم. فهؤلاء لا يمتلكون مكاتب للتفسّح وتدوير ما يصدر عنها من قرارات عن المؤسّسات على أساس أنّها مادة إعلامية يستحق أنْ يعرفها المغاربة. ففي الوقت الذي تنهار فيه بيوت بأكملها على أجساد الناس في مدن مهمّشة أو تحصل قضية اغتصاب طفل أو تحرّش أو فضيحة سياسية، تكون القنوات الرسمية في المغرب مشغولة بما يحدث شرق آسيا أو في مناطق أخرى من الأرض، لا يعرفها المشاهد ولا تعنيه في شيء، ريثما تهدأ أصوات الناس المطالبة بفتح تحقيقات صحافية تُنقّب في أحوال الواقعة/الظاهرة/المسألة.
مواد صناع المحتوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي تبقى مُنفلتة من البُعد الرسمي المألوف في القنوات الرسمية
ولأنّ وسائل التواصل الاجتماعي هي المساحة أو السند الوسائطيّ الذي يشتغل فيه صنّاع المحتوى، فإنّ موادها البصريّة عبر "يوتيوب" تبقى مُنفلتة من البُعد الرسمي المألوف في القنوات الرسمية وتسعى جاهدة إلى التوغّل أكثر في الجسد المغربي والحفر في متخيّل السياسي وتناقضاته الاجتماعية، ما يجعلها ذات مصداقية أكبر، مقارنة بالصحافة المرئية المُدجّجة بالتخوين ودغدغة مشاعر الناس بأخبار الأعياد والاحتفالات والمقاولات والإنجازات الكاذبة بعشرات الملايين من الدراهم التي تصرفها الدولة يومياً على هذا المجال.