الشيعة في لبنان غاضبون، في الحقيقة القسم الأكبر منهم غاضب. نعلم ذلك. قرأناه على مواقع التواصل، وشاهدناه في الفيديوهات التي انتشرت. غاضبون من الكوميديا التي تصر على تنميطهم رجالا ونساءً، وتتناول الطائفة، هكذا بلا حواجز. الشيعة غاضبون. وهل هناك أسوأ من طائفة غاضبة في لبنان؟
للمرة الثانية في شهر تقريباً، نعود إلى النقاش نفسه: ما هي الكوميديا؟ أو ما هي الكوميديا المسموح بعرضها في لبنان؟ ما الذي يعتبر مضحكاً وما الذي يهدد السلم الأهلي؟ ومن يتحكّم بما يمكن قوله ولا يمكن؟
مناسبة الحديث هي الحملة التي تعرض لها الثنائي حسين قاووق ومحمد الدايخ، بعد اسكتش "تعلم اللغة الشيعية" في برنامجهما الجديد "تعا قلو بيزعل" على شاشة LBCI. حملة تلاها رمي قنبلة صوتية على القناة اللبنانية. هذا تسلسل الأحداث، أما التحقيق الأمني فلا يربط حتى الساعة بين الحدثين. القنبلة أعقبت الاسكتش، هل هي صدفة التوقيت أم أنها رسالة؟ الأجهزة الأمنية لا تقول، تحقق، وننتظر نحن نتائج التحقيق.
قبل "تعا قلو بيزعل" شاهدنا غضب الطوائف مراراً في الشارع، حتى بات حصر استعراضاتها شبه مستحيل. الطوائف لا تحب المزاح، طوائف رصينة واقفة على أبواب النكات حماية للسلم الأهلي وللأخلاق والمقدسات والعائلة.
مع دخول لبنان سنوات السلم الأهلي مطلع التسعينيات وانطلاق ورشة إعادة إعمار العاصمة، برز نوع جديد من الكوميديا، لا هو كوميديا الأخلاق الحميدة والشرف كما كانت الحال مع أبو سليم الطبل وفرقته، ولا هي كوميديا الحرب الأهلية بفجاجتها ووضوحها كما هي الحال مع مسرحيات زياد رحباني ("فيلم أميركي طويل"، و"شي فاشل" بشكل خاص). كوميديا عائلية نظيفة جسّدها مسرح الساعة 10 مع بيار شماسيان وأندريه جدع. بينما شهدت الشاشة تدريجياً تسلل كوميديا أخرى، مضحكة في وقتها مع برامج مثل SLCHI ثم "لا يملّ". تطورت صناعة الضحك، وكسرت بعض المحاذير على الشاشة فبتنا نشاهد وإن نادراً "تلطيشاً" غير مباشر على الوجود السوري في لبنان، وعلى فساد الطبقة الحاكمة.
بعدها جاءت اللحظة الحاسمة: اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري. دخلت البلاد عالم اللعب عالمكشوف، وفي ذروة الشرخ الطائفي بات كل شيء مباحاً على الشاشة: النكات الطائفية المتبادلة هنا وهناك، الشحن الهوموفوبي، النكات الجنسية المبتذلة، العنصرية التي تجعل من العمال الأجانب مادة للضحك. لم يعترض أحد تقريباً. كانت معركة على كل الجبهات، ولم يكن التنميط أزمة، ولا الهويات مهددة. قدمت كل طائفة ما في جعبتها من كراهية، من دون التفات حقيقي لدورها في شحن الشارع، ولا في تجييش الحروب الأهلية الصغيرة التي كانت تشهدها هذه المنطقة وتلك كل فترة. ثمّ وصلنا إلى هذه اللحظة. لحظة اختفاء الدولة اللبنانية تماماً، وإحباط الشارع، وانفلات الخطاب العام من أي إطار رمزي. لحظة متخففة من كل عبء وثقل، لحظة الحقيقة من دون مونتاج. كل نكتة ستقابل بردة فعل غير مضحكة إطلاقاً. كل تلطيش على الطائفة، أي طائفة، لن يمرّ.
وها نحن اليوم، أمام خطوط جديدة، أكثر ضيقاً من تلك التي عرفها اللبنانيون حتى في تسعينيات القرن الماضي، خطوط تجعل من كل نكتة مشروع عبوس، وكل عبوس مشروع فتنة.
قد نناقش محتوى النكتة، قد نناقش ذكاءها وخفتها، قد نناقش أيضاً نوع الكوميديا الجديدة التي صقلتها مواقع التواصل وجعلت جمهورها أكبر وأكثر تنوعاً. لكن الطوائف في لبنان لا تحب النقاش، تماماً كما لا تحب الضحك. تنتفض سريعا لكرامتها التي تنتهكها نكتة. وفي خضم الطحن اليومي لآدمية السكان في لبنان، تأخذ الانتفاضة على النكتة صدى كبيراً، تنتفخ حتى تملأ كل الفضاء.
يبدو مضحكاً اليوم مناقشة موضوع حرية التعبير، أو صناعة الكوميديا. فجوهر الصراع أصلاً ليس إبداعياً ولا أخلاقياً. نحن فقط أمام استعراض قوة آخر لطائفة غاضبة. وهل هناك أسوأ من طائفة غاضبة في لبنان؟