أحد أبرز ضحايا وباء كوفيد-19 العامَ الفائت -ولا مقارنة البتة بمئات الآلاف ممن فقدوا حياتهم إثر التقاطهم عدوى المرض- هو لودفيغ فان بيتهوفن (1770 - 1827)، الموسيقار الألماني، مالئ دنيا الموسيقى الكلاسيكية وشاغل ناسها وعشّاقها. كان من المفترض أن يكون عام 2020 عامه؛ احتفالية موسيقية فنية وثقافية، تحتفي بمرور قرنين ونصف على ميلاده، سبق لـ "العربي الجديد" أن خصّتها بموضوع تحت عنوان "250 عاما على رحيله: بيتهوفن بخمسة حروف و365 حركة".
حدثٌ يضم مئات الفعاليات الموسيقية، مركزه ألمانيا ومداراته حول العالم، وبطول عام كامل تعذّرت إقامته بفعل الإغلاق الذي عم أرجاء الأرض، وبالأخص ذاك الذي طاول جميع الدور التي تُحيي الحفلات الموسيقية وتؤوي الفرق وأطقم العاملين، من عازفين ومغنين وفنيين وإداريين، ناهيك عن المستمعين.
قناة "الموجة الألمانية" Deutsche Welle، وكما لو أرادت تعويض الموسيقار الخالد ومُحبّيه عما فات بسبب كورونا، وتزامناً مع ختام العام في شهر ديسمبر/كانون الأول، الذي صادف السابع عشر منه عيد ميلاده، بادرت إلى بثّ فيلم تسجيلي طويل بعنوان "عالمٌ من دون بيتهوفن؟" A World Without Beethoven.
تساؤلٌ ستجول به بين كل من أوروبا وبريطانيا وأميركا الشمالية، عازفة بوق الهورن الأساسية في أوركسترا برلين الفيلهارمونية، سارة ويليامز، تطرحه على كوكبة من نجوم الموسيقى في محاور رئيسية. من خلال جولتها، تقتفي ويليامز الأثر الذي تركته تلك الأسطورة على الموسيقى الغربية بجميع فروعها، وعلى الصناعة الموسيقية والإنتاج الفني على مدى قرنين ونصف من الزمن.
برصده مجالات التقاطع والتلاقي، وبعض جوانب الاقتباس والاستلهام، التي قد تبلغ حد الاستيلاء الثقافي، يبدو الفيلم كما لو أنه يهم بإنزال بيتهوفن عن برجٍ نخبوي أجلسه عليه التاريخُ، والسياقات الكونية ذات الخلفية الكولونيالية والمركزية الأوروبية اليهو - مسيحية، في سعيٍ إلى "شعبنة" كل من سيرته وإرثه الموسيقي، وتقريبهما إلى الثقافة الجماهيرية في المظاهر وفي المضامين، أي ما يُعرف بـ Pop Culture.
محاولات الاقتراب بالموسيقى الكلاسيكية بأعلامها وأجوائها وطقوس سماعها من "العامة" ليس بجديد، بالأخص في وسائل الإعلام التقليدية، كالإذاعة والتلفزيون زمان القرن الماضي والتي خاطبت قطاعات واسعة عابرةً الطبقات الاجتماعية. أما اليوم، في زمن الإنترنت، فصارت سليلاتها الرقمية تجتاز الثقافات وتعبر حدود الدول.
فهاجس توسيع القاعدة الشعبية، ونزع السمة المحافظة عن هذا الفن، ظل يستبد بالقائمين عليه في الغرب، من مؤدين ومنتجين ومؤسسات ترعاه وتنفق عليه، سواء كانت خاصة وحكومية، تؤرقهم مخاوف المتحفيّة والموت الثقافي، وترعبهم العزلة عن الجمهور الشبابي، مما لذلك من تبعات اقتصادية تتعلق بحجم الإيراد المرتبط حكماً بمدى الإقبال والارتياد، وأخرى سياسية تتعلق بضمور أحد مواضع النفوذ والهيمنة الثقافية عن طريق القوة الناعمة.
بيتهوفن، كما تناوله الفيلم، ليس بالحقيقة أوّل من جعل من حفنة نغمات خلية لحنية تلد منها مقطوعة موسيقية كاملة، كما فعل في الحركة الأولى من سمفونيته الخامسة؛ فألهم بها موسيقى الروك أند رول. قد سبقه مواطنه الألماني يوهان سباستيان باخ بما يزيد عن المئة عام، حين تناول حروف اسم شهرته الأربع BACH التي تُقابل وفق الاصطلاحات الموسيقية الألمانية (من اليسار إلى اليمين) أسماء نغمات كل من سي بيمول (المنخفضة) ولا ودو وسي بيكار (الطبيعية) جاعلاً منها النواة لعدد من أعماله.
وليس بيتهوفن بالضرورة أول من رتّب مقطوعاته حلقياً، مُلهماً الصناعة الموسيقية شكل الألبوم الحديث الذي صار عبوةً تُسوّق بها الأغاني والمعزوفات المسجلة والمطبوعة على شرائط وأسطوانات؛ قد جاء قبله المؤلف الإيطالي أنطونيو فيفالدي بسلسلته الحلقية الشهيرة للكمان وفرقة من الوتريات المعنونة بـ "الفصول الأربعة".
ثم ليس بيتهوفن أول من قارب أصوات الآلات درامياً لتوظّف عناصرَ مشهدية مهدت لما بات يُعرف بـ "الموسيقى التصويرية"، أو الموسيقى المصاحبة للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية؛ فسلفه النمساوي، فولفانغ أماديوس موتزارت، وفي أكثر من مناسبة، كان قد جنّد الآلات مشهدياً في معرض أوبراته من بين تلك الأكثر تشويقاً، كـ "دون جيوفاني" و"الناي السحري".
من هنا، يبدو التساؤل الذي عنون الفيلم التسجيلي، كما لو كان يُبطن في طيّاته تساؤلاً آخر: لمَ بيتهوفن؟ ما الذي يجعل من تلك العبقرية الفريدة والاستثنائية، على مستويات عديدة، أيقونة قابلة للشعبنة والتوظيف بمتن خطاب غربي يتجه إلى الحاضر والمستقبل، بقدر ما ينبع من الماضي، ويتوجه إلى جمهور عصري معولم متعدد الأجيال والثقافات والطبقات، بقدر ما يصدر عن هوية أوروبية مركزية، ونخبة محافظة تحاول النظر بعين الرأفة الموسيقية إلى المستمع العادي؟
الإجابة يجدر البحث عنها في سياق اللحظة التاريخية التي عاصرها بيتهوفن، وتمخّض عنها فنياً وفكرياً. فقد شكلت بداية القرن التاسع عشر بإرهاصات الثورة الفرنسية وتداعياتها السياسية والاجتماعية، وصولاً إلى منتصفه، حيث أخذ مفهوم الدولة الوطنية بالتبلور إثر مخرجات الثورة الصناعية ومآلات الحروب النابوليونية، مناخاً فكرياً يلبّده التناقض إزاء كل من مفهوم العالمية من جهة، والهوية القومية من جهة أخرى، وذلك في ظل مشاريع استعمارية زادت توسعاً تبحث لها عن سرديات وشعارات.
في تلك البيئة المتحرّكة، وفي خضم التحولات الجارية، يبرز بيتهوفن بشخصيته وموسيقاه، وبتفاعله مع مثقفي عصره بصفته رمزاً تقدميّاً يُجسد بالخطاب والممارسة، كما بالإبداع من جهة، بزوغ طبقة برجوازية عصرية رائدة، مقابل أفول أخرى أرستقراطية رجعية بائدة. بصرف النظر عما إن كانت شمس التغيير قد أشرقت، ورياح التحرير قد هبّت من جهة العدالة الاجتماعية على عموم الآخرين الكادحين، من عمال وفلاحين.
كما يُجسد، من جهة ثانية، رديفة بروز العالمية Universalism، بوصفها قيمة إنسانية جامعة، وجوهراً صافياً لفكر التنوير الأوروبي. بغض النظر عما إذا كانت حقاً تؤاخي بين كل الناس، بما فيها شعوب المستعمرات النائية والقريبة على اختلاف أعراقها وأعرافها وعقائدها، والتي أصبحت منذ حقبة ما بعد الكولونيالية من خيوط النسيج الاجتماعي والثقافي الداخلي في سائر الدول الأوروبية.
لئن ظلت كل من الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية تعنون الخطاب التنويري الغربي، فإن إسقاط بيتهوفن من محرق الكونية على المسرح الموسيقي المعاصر، الذي بات اليوم أكثر تشعباً وشعبوية (بالمعنى الثقافي لا السياسي) من أي وقت مضى، يصب في صناعة هوية الاتحاد الأوروبي ثقافياً، وفق ما تُشاع الإشارة إليه بـ "القيم الأوروبية"؛ هوية كيانٍ اقتصادي وجيو- سياسي حديث، تُحيق به أخطار الانقسام والتفكك من الداخل والخارج، فيما تحرص دولة مركزية فيه وأوروبويّة Pan European، كألمانيا، على بلورتها بالقوة الناعمة من خلال أيقنة الجانب التقدمي من سيرة بيتهوفن لتبث موسيقاه رسالة عالمية وتحظى بأن يُطوّب أحد إبداعاته لحنَ نشيد الاتحاد.