انحيازاً للأفلام الوثائقية: سجناء يُحدّقون في الفراغ

25 ديسمبر 2024
في سجن صيدنايا (كريس ماكغراث/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الواقع السوري وتحديات السينما: يتطلب تحويل الواقع السوري الجديد إلى عمل إبداعي وقتًا، حيث توثق قصص سجن صيدنايا معاناة المعتقلين. ساعدت التكنولوجيا في توثيق الثورة السورية وكشف الحقائق المروعة للعالم.

- السينما السورية بين الواقع والخيال: تواجه الأفلام الوثائقية والروائية تحديات في التعبير عن العنف والواقع السوري. السينما منقسمة بين دعم النظام ومعارضته، وكلاهما يواجه صعوبة في تقديم صورة صادقة.

- الثورة السورية وتداعياتها: انطلقت الثورة من المناطق الأقل تنمية مطالبة بالحرية، لكنها لم تؤدِ إلى ثورات ثقافية. التحدي هو إنتاج أفلام تعزز الحداثة والديمقراطية لبناء مجتمع جديد.

يحتاج هذا الواقع السوري الجديد زمناً لهضمه، وتحويله إلى عمل إبداعي. بانتظار ذلك، طفت حكايات غياهب عنبر 8 في سجن صيدنايا على صفحات الإعلام العالمي المُصوّر. حكايات فردية تجمع شتات عصر في طبقات سجن، تُذكّر بلقطات السجن والجوع والدم في "بلاتفورم" (2020) للإسباني غالدير غازتيلو ـ أورّوتيا. حكايات مكثّفة في مقاطع مُصوّرة لأجساد المعتقلين الأحياء الأموات. سوريون يبحثون عن جثث ذويهم لدفنها بعد خمسين عاماً من وحشية عائلة الأسد. خرج السجناء إلى الشمس لأول مرة بعد عذاب. يحزَن من يقرأ هذا عن بُعد، بينما يفرح من عاشه نصف قرن وتخلّص منه الآن. لم يكن هذا الخلاص مضموناً.

بينما يُكتب هذا المقال عن سينما الثورة السورية، ككوابيس "عزيزة" (2019، 13 د.) للمخرجة سورية سؤدد كعدان، تنكشف وتُروى قصص دموية جديدة، توفّر للقارئ معلومات لم تتوفّر لكاتب المقال. حين تتوفّر للسينمائي السوري، سيحتاج هذا الواقع زمناً لاستيعابه وجعله عملاً إبداعياً. يتعذّر على أي مبدع أنْ يكتب حوارات متخيّلة، ترقى إلى الحوارات التي تُبثّ للمعتقلين السابقين في سجن صيدنايا. تتعذّر مشاهدة امرأة نسيت اسمها وأهلها. معتَقل يتحدّث عن عدد الإعدامات، ويقسم أنّه لا يكذب. سجناء يحكون عن أفعال السجّان الذي رقّى نفسه إلى مرتبة ملاك الموت. يحكون عن عنف جسدي ونفسي، وعن تهديد بإذلال نساء العائلة. يحكون في باب السجن عما يجعل الدراما في قمّتها. أتاحت التكنولوجيا دمقرطة التصوير، وهذا سهّل توثيق وقائع الثورة السورية بكثافة، منذ انطلاقها في درعا. كانت قيمة هذه الفيديوهات تتحدّد بالتقاط الحقيقة، وتوثيق الوقائع بصدقية تاريخية.

كيف تمكن قراءة الأفلام الروائية والوثائقية، السورية والعربية والأجنبية، المُنجزة عن الثورة السورية؟ تُلهم الثورةُ الفن. اندلعت الثورة في الشارع، ويُفترض بلهيبها أنْ يصعد إلى الشاشات. لا تموّل الأنظمة الحاكمة فنّاً مُسيّساً، تعتبره تحريضياً. الحكومات تموّل التسلية.

يصعب التركيز على الأفلام السورية، الروائية والوثائقية، عن الثورة، المعروضة في مهرجانات، كـ"من أجل سما" (2019) للسورية وعد الخطيب والبريطاني إدوارد واتس، بينما الخارجون من سجن صيدنايا يعرضون مادة حيّة على المُباشر، ويقدّمون شهادات بأجسادهم متاحة في الإنترنت. حتى عندما يسكت الضحايا، يُعبّر صمتهم أكثر من كلامهم. هذه وقائع عنف موثّق، تُثبته أجساد المعتقلين فعلياً. يصعب على أفلام التخييل أنْ ترتقي إلى مستوى هذا العنف. تقدّم الوثائقيات الحيّة محتوى عميقاً عن سجناء يُحدّقون في الفراغ من هول الألم. تعبّر الكاميرا عن وجهة نظرهم، حين تصوّرهم باعتبارهم نماذج حية (Prototype)، تعيش الاغتراب. لا ممثّلين محترفين أتقنوا دور المُستلبين.

نتجت هذه التراجيديا عن طول محنة الشعب السوري. هذه أفلام وثائقية تكشف الحقيقة، وتدحض الصُوَر التي قدّمتها أفلام السلطة التي كانت تبثّ دعاية تُمجّد نظام حافظ الأسد. انقسم المشهد الفني السوري بين سينما دعاية مع النظام، وسينما ضده، وهذه أيضاً مُهدّدة بفيروس البروباغندا الثورية الحالمة. كتب السيناريست السوري علي وجيه على صفحته في فيسبوك: "في النهاية، لم يجلب الاستقطاب الحادّ سوى الضرر لهذه السينما، ما جعلها تُصاب بالصداع والمرض".

كلّ هذا تراجع لتنكشف حقيقة اللحظة: يحكي سجين حكايات النجاة من الإعدام الميداني هرباً. يحكي الروائي مصطفى خليفة قسوة العذاب في سجون سورية. هذا ما أفرزه توالي الانقلابات والديكتاتوريات في سورية. مثل حي: مقابلة مع وليد بركات المُحرّر من السجون السورية بعد 42 عاماً من الاعتقال. كيف يُمكن لفيلم متخيّل أنْ يقبض ويحكي 42 سنة؟

القيمة الوثائقية لهذه الشهادات فظيعة، وستطبع المستقبل. لذا، يمنح هذا المقال الأسبقية للفيلم الوثائقي لالتقاط اللحظة الحاسمة، وتوثيق الوضع البشري، وهذا أهمّ من جمالية الصورة وحرفية التصوير. سيبدو أيّ فيلم متخيّل في ديكور مُصطنع شعاراً مُذهّباً، يفتقد المصداقية مهما كان عمل الممثلين المحترفين مقارنة مع الشخصيات الواقعية التي تبثّها فيديوهات يوتيوب.

سينما ودراما
التحديثات الحية

حالياً، تُقدم فيديوهات السجناء الخارجين من سجن صيديانا شهادات مرعبة، تتجاوز كلّ الأفلام المتخيّلة والتوثيقية القديمة والجديدة. نتج العبث من طول مدّة حكم حزب البعث.

بدأت الثورة التونسية والسورية في أقصى الجنوب البائس والجاف. تحقّقت الثورة التونسية مع فرار زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011، بعد أقلّ من شهر على احتراق محمد البوعزيزي. سمَح قِصَرُ الزمن بتقليل المحن. تحقّقت الثورة السورية يوم فرّ بشّار الأسد ليلة 7 ـ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، بعد فارق ثقيل امتدّ 14 سنة في حرب أهلية عالمية. كلّ ما صُوّر قبل سقوط النظام مُقدّمة لتوثيق وقائع الخراب السوري.

لماذا تبدو الأفلام التخييلية عن سورية كأنّها وثائقية؟ لأنّها صُوّرت في ديكورات حقيقية، كلّفت صفر ليرة. لأنّ عنف الواقع هناك يفوق الخيال. شخصياً، لا أتوقّع فيلماً تخييلياً عن سورية، لأنّ مفارقات الواقع تتجاوز كلّ انزياحات الخيال. حالياً، طغت أخبار السجون على صُوَر فرح الجماهير باللحظة التاريخية. تمثّل السجون المشهد الخلفي للثورة السورية. والعذاب ثمرة عَقدٍ من الحرب الأهلية والخراب.

في الفن، الأسبقية للخيال والأسلبة في التعبير عن الواقع. يصعب على أيّ فيلمٍ، فيه ماكياج، أنْ يتفوّق على فيديو يظهر فيه سجين أمضى عشرين سنة تحت الأرض. في السياسة، الأسبقية للمعطيات الآنية.

ما الفرق بين الأفلام السورية وواقعها قبل الثورة وبعدها؟ الثورة فعلٌ سياسي مزلزل ومعد، يُبهج الشاب المتحمّس والمثقّف العجوز الذي ينظر من بعيد. كتبت حنة أرندت: "الثورة تفترس أبناءها، والضرورة التاريخية ترغمهم". لهذا سوابق يجب ذكرها، كي لا تخفي الفرحة بسقوط حزب البعث حقيقة الوضع. في انتخابات تونس ومصر بعد الثورة، بحث الناس عن مُرشّح "يُرضي ربّنا"، ففاز الإسلاميّون. ما معنى ثورة "تُرضي ربّنا"؟ الثورات ترضي البشر. هل يُمكن للقوى الدينية أنْ تقوم بثورة؟ مستحيل، لأنّ المُتديّن المؤمن يضع نفسه فوق غيره، ولا يُمكن إقناعه بالمساواة مع المواطنين والمواطنات خاصة. المؤمنون هم الأعلون، وهم من يُقرّرون. لا شيء نسبي بالنسبة إليهم.

هل يُعقل أنْ يتلو ربيع الشيوخ ربيع الشبيحة؟ في تونس ومصر، لم تسترجع الثورة أموالاً كثيرة سرقها الفاسدون. انكشفت البنية الذهنية المُضادة للثورة في تفاصيل صغيرة.
الإرادة وحدها لا تصنع ثورة. لم تُنتج الثورة السياسية بين المحيط والخليج ثورة ثقافية تبني الإنسان الجديد. سيبقى الفرد القبَلي والعِرقي والطائفي، وهذا خطر. سبب الثورة في مكان آخر: الحاجة إلى التنمية والحرية. انطلقت الثورة من المناطق الجنوبية الأقل تنمية. بعد 15 سنة بؤس، صارت الثورة الحقيقية للشاب التونسي أنْ يصل إلى شواطئ إيطاليا. كيف تكون الهجرة إلى الشمال ثورة؟

يُنتظر من الأفلام التي ستتلو الثورة أنْ تبني الإنسان الذي يتبنّى قيم الحداثة، لتزدهر الديمقراطية، وتُزهر السينما.

المساهمون