الوضع القانوني الملتبس على الحدود المصرية السودانية، وتبرؤ القاهرة والخرطوم من منطقة "بئر طويل" الحدودية لا يزال يشجع المغامرين على إعلان سيادة "دولهم" الوهمية على هذه البقعة، وذلك لخوض تجربةٍ مثيرة ربما تكون مدفوعة من جهات مجهولة، أو لعلها تجارب ذاتية يقوم بها ظرفاء يبحثون عن صناعة حدث ساخر.
ففور ظهور الدكتورة نادرة عواد نصيف في 5 سبتمبر/ أيلول 2019 لتعلن من أوكرانيا قيام مملكة الجبل الأصفر، لتنصّب نفسها رئيسة للوزراء؛ قامت "حكومتها" بالتبشير بأن الوطن الجديد سيكون ملاذاً للمضطهدين في العالم، رافعة شعار "اللاجئون أولاً"، معلنة أن الأولوية ستكون لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين واليمنيين! علم الدولة الجديدة أخضر اللون، وسطه شارة صفراء بداخلها نخلة، وكُتِبَت في مساحة بيضاء أعلى تلك الشارة عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم". والمادة الأولى من دستور البلد ينص على أنها دولة عربية إسلامية ذات سيادة، دستورها كتاب الله، وعاصمتها بئر طويل. وملكها يدعى عبد الإله بن عبد الله آل وهيب!
منذ ذلك الحين نَشرت "حكومة الجبل الأصفر" عدداً من الأخبار الطريفة، كالإعلان بأنها الدولة الوحيدة التي لم تسجل إصابة من فيروس كورونا، وأن مواليد الجبل الأصفر سوف يحظون برعاية اجتماعية ومبلغ 200 دولار شهرياً حتى دخولهم المدرسة، وأن المملكة لا تقبل طلبات هجرة لمن هم دون الثامنة عشرة وأعلى من السبعين سنة! وتمَّ إطلاق الدينار الجبلي كعملة خاصة للبلاد. لكن يبدو أن المغامرة انتهت، فالمنطقة القاحلة التي لا يُعرف لها صاحب، ولا يعترف بها أحد، انتقلت إليها قوات مصرية في سريّة منذ شهرين تقريباً دون أن ينتبه أحدٌ من سكان المملكة الافتراضيين أو حكامها المهاجرين، إذْ رُفِع العلم المصري فوقها لكيلا يتفاقم أمر هذا الإعلان الهزلي في غفلة من الزمن، ويصبح العلاج صعباً! تُرى لماذا لم تُعلن مصر تحركها العسكري؟ ولماذا لم تتدخل السودان؟ ولماذا لا يتنازع البلدان حول أحقيتهما في هذه البقعة العجيبة.
بئر طويل هي واحدة من منطقتين لا تطالب بهما أيّة دولة في العالم. المنطقة الأخرى هي ماري بِرد في القارة القطبية الجنوبية
تسمى المنطقة أيضاً باسم مثلث بارتازوجا وتبلغ مساحتها 2060 كيلومترا مربعا، تمثل شبه منحرف ضلعه الطويل هو حدُّها الشمالي الذي يتماس مع خط عرض 22° شمالاً بطول 95 كم، وضلعها الجنوبي طوله 46 كم، ويتراوح طولها من الشمال إلى الجنوب ما بين 31 كم و26 كم. أبرز معالم المنطقة هو جبل يكتسي الذي يمتاز بلونه الأصفر الذهبي. وهي منطقة قاحلة تكاد تخلو من السكان في الوقت الحالي. يرفض السودان ومصر المطالبة ببئر طويل بسبب رغبتهما في انتزاع مثلث حلايب، فمصر تعتبر أن الخط العرضي 22° هو الفاصل الحدودي مع السودان، ما يعني أن مثلث حلايب وشلاتين يقع ضمن الحدود المصرية، وتحتج مصر باتفاقية الحكم الثنائي الذي وقعته مع بريطانيا سنة 1899. بينما يتمسك السودان باتفاقية الحدود الإدارية الموقعة سنة 1902 التي تضع مثلّث حلايب داخل حدوده وتزيح بئر طويل داخل الحدود المصرية. ويقول الطرف المصري إن هذه الاتفاقية الإدارية وقِّعت لتسهيل تحرك القبائل الرعوية على الحدود. ومع هذا الخلاف تظلّ بئر طويل واحدة من منطقتين لا تطالب بهما أيّة دولة في العالم، والأخرى هي ماري بِرد في القارة القطبية الجنوبية. وليس في القانون الدولي ما يلزم أي دولة بتبنيهما.
مغامرة إعلان مملكة الجبل الأصفر لم تكن الأولى من نوعها، ففي يونيو/ حزيران عام 2014 أعلن مواطن أميركي يدعى جيرمي هيون إقامة دولته الخاصة بها، وأطلق عليها "مملكة شمال السودان" ورفع علمه الخاص، وبذلك يكون قد وفّى وعده لابنته ذات السبع سنوات بأنها ستكون أميرة حقيقية. وفي 2015 قام بعض الأشخاص برفع علمهم على دولتهم الجديدة التي أسموها "بيرلاند"، وأظهرت تقارير إعلامية نشاطاً كبيراً يقوم به رئيس دولة بيرلاند الدكتور أمير حياوي، وهو عراقي مقيم في بروكسل، من أجل تأمين المياه وتوفير موارد اقتصادية لدولته الناشئة. ويظهر على مواقع التواصل اسم وزير خارجية "بيرلاند" ويدعى محمد باحارث مع مجموعة من التصريحات التعريفية. وفي 2017 جاء الهندي سوياش ديكست وأعلن نفسه الملك ديكست الأول، بعد أن رفع علمه على مملكته الوليدة، مشيراً إلى أنه يسعى لاعتراف دولي بجلالته.