قبل عقد تقريباً، عندما نُشرت آلاف الوثائق المسرّبة عبر موقع يدعى "ويكيليكس"، بدا أنّ عصر الصحافة، الاستقصائية تحديداً، قد تغيّر للأبد. أكثر من عشر سنوات مرّت، تحوّلت خلالها صورة مؤسس "ويكيليكس" الأسترالي جوليان أسانج (49 عاماً)، وتبدلّت مراراً، في ظلّ شرخ واضح بين من يراه بطلاً، و"والداً للصحافة الاستقصائية الحديثة"، وبين من يراه "عدواً للدولة"، أو حتى "شريكاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، ومسؤولاً عن انتخاب دونالد ترامب رئيساً عام 2016.
ظهر أمس الاثنين، انتهى فصل إضافي من فصول اعتقال أسانج، وذلك بإصدار القاضية فانيسا باريتسر في محكمة "أولد بيلي" الجنائية في لندن، حكماً بمنع تسليمه للولايات المتحدة التي توجّه إليه تهم تجسّس، وذلك نظراً إلى وضعه الصحي والنفسي، ووجود "مخاطر عالية" لإمكانية إقدامه على الانتحار. علماً أنّ الحكومة الأميركية أعلنت استئناف القرار، وفق ما نقلت وكالة "أسوشييتد برس".
بداية القصة
كيف بدأت قصة أسانج، وكيف انتهت بطلب تسليمه للولايات المتحدة؟ الجواب السريع يعيدنا إلى عام 2009 حين بدأت شهرة موقع "ويكيليكس" إثر نشره مئات الآلاف من البرقيات المرسلة إلى الولايات المتحدة في 11 أيلول/ سبتمبر 2001. ثم في 2010 نشر الموقع مقطع فيديو يكشف عن مقتل مدنيين بنيران الجيش الأميركي في العراق، تلاه نشر آلاف الوثائق العسكرية عن أفغانستان. في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، نشر بمساعدة خمس وسائل إعلام دولية كبرى ("نيويورك تايمز" الأميركية، و"ذا غارديان" البريطانية، و"دير شبيغل" الألمانية، و"لو موند" الفرنسية، و"إل باييس" الإسبانية)، أكثر من 250 ألف وثيقة سرية تكشف عن خفايا الدبلوماسية الأميركية. بعد العملية التي سُميت "كيبل غيت"، أصبح جوليان أسانج العدو الأول المعلن للولايات المتحدة. وقد أكد الموقع أنه نشر "أكثر من 10 ملايين وثيقة" تتعلق بقطاع المال والترفيه والسياسة خلال هذه السنوات.
لكن في أواخر 2010، وأمام غضب رسمي أميركي كبير من التسريبات، طلبت السويد اعتقاله بتهمة الاعتداء الجنسي (أسقطت التهم لاحقاً). وتحت وطأة هذا الاتهام لجأ في 2012 إلى سفارة الإكوادور في لندن، وبقي هناك نحو سبع سنوات، حصل خلالها على الجنسية الإكوادورية. لكن في 2019، مع تغيير السلطة في كيتو، اعتقلته قوات من الشرطة البريطانية في تهم تتعلق بالقرصنة المعلوماتية في الولايات المتحدة التي طلبت من لندن تسليمه.
بقي مسجوناً في سجن بيلمارش مشدد الحراسة، بينما كان القضاء البريطاني يدرس ملفّ تسليمه للولايات المتحدة. تأخرت قضيّته وتأجل النطق بالقرار البريطاني بسبب تفشي فيروس كورونا. خلال هذه الأشهر الطويلة من الاعتقال كانت التهم تلاحق القضاء البريطاني بـ"الخضوع" للإملاءات الأميركية، وتغاضيها عن اعتبار حريّة الصحافة والعمل الاستقصائي إحدى القيم الأساسية في بريطانيا وأوروبا، ليجيء الحكم برفض ترحيله، ويخفّف من كل هذا الغضب.
لكن لم تمرّ السنوات العشر من دون تراجع شعبية أسانج في العالم. عام 2011، نددت الصحف الخمس التي نقلت وثائق ويكيليكس بأسلوب عمل موقع "ويكيليكس" الذي برأيها، ينشر برقيات وزارة الخارجية الأميركية من دون تنقيحها، محذرة من أن من شأن هذه الوثائق "تعريض بعض المصادر للخطر". وهي انتقادات رددها كذلك إدوارد سنودن الذي كشف للصحافة برامج مراقبة الاتصالات التي تطبقها وكالة الأمن القومي الأميركية.
غير أن أسانج ما زال يحظى بتأييد نواة صلبة من الأنصار، بينهم الممثلة الأميركية باميلا أندرسون، وعدد من جمعيات الصحافيين المعارضة لتسليمه.
عام 2011، نددت الصحف الخمس التي نقلت وثائق ويكيليكس بأسلوب عمل موقع "ويكيليكس" الذي برأيها، ينشر برقيات وزارة الخارجية الأميركية من دون تنقيحها
وعام 2016 عادت الانتقادات لتطاوله بعد تسريب معلومات من البريد الإلكتروني للمرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية الأميركية هيلاري كلينتون، في خطوة يعتبر كثيرون أنها حسمت فوز دونالد ترامب.
جلسة رفض الترحيل
بالعودة إلى جلسة أمس الاثنين، قدّم فريق الدفاع الخاص بأسانج حجته الختامية إلى المحكمة، معتبراً أن هذه المحاكمة تقودها "بدوافع سياسية"، وأنها تمثّل "انتهاكاً واضحاً للمعاهدة البريطانية ــ الأميركية التي يفترض أن تحكم أي قرار قضائي مرتبط بتسليم أسانج"، وهي الحجة التي رفضتها القاضية فانيسا باريتسر.
وبحسب الكلمة التي ألقتها هذه الأخيرة قبل إصدار الحكم، فإن تصرفات أسانج تجاوزت حدّ الصحافة الاستقصائية حين حاول تجنيد قراصنة آخرين، خلال مؤتمرات عامَي 2009 و2013، عندما شجع الجمهور على الانضمام إلى وكالة المخابرات المركزية "(سي آي إيه) لسرقة الوثائق. لكن رغم مرافعة القاضية، فقد خلصت إلى أن التقارير الطبية تشير إلى إصابة أسانج باضطرابات نفسية عدة. كذلك استعادت حادثة حاول مؤسس "ويكيليكس" خلالها إيذاء نفسه عام 1991، مستعيدة تاريخ أسانج العائلي، حيث أقدم فردان من أسرته على الانتحار. وبالفعل، كان أسانج قد اشتكى من سماعه أصواتاً وموسيقى متخيلة في الاحتجاز، وظهرت عليه ميول انتحارية، وفق ما قال الطبيب النفسي مايكل كوبلمان أمام المحكمة، بعد معاينته المتكررة له.
ما الذي سيحصل الآن، وهل سيطلق سراح أسانج في انتظار الاستئناف؟ بعد قضائه سنة ونصف سنة في السجن البريطاني، يكون مؤسس موقع "ويكيليكس" قد أنهى حكمه الصادر بسبب كسره قواعد الكفالة عند لجوئه إلى سفارة الإكوادور، ويقضي بسجنه 50 أسبوعاً. لكن أعلن بعد انتهاء جلسة أمس أنه سيبقى معتقلاً في سجن بيلمارش حتى جلسة الأربعاء للنظر في طلب الإفراج عنه.
وتزامناً مع صدور القرار البريطاني، عرضت المكسيك أمس الإثنين اللجوء السياسي على أسانج. وقال الرئيس المكسيكي اندريس مانويل لوبيز أوبرادور في مؤتمر صحافي "سأطلب من وزير الخارجية اتخاذ التدابير الضرورية بهدف الطلب من الحكومة البريطانية الإفراج عن أسانج ولتعرض عليه المكسيك اللجوء السياسي". وأضاف "نحن مستعدون لمنح اللجوء ونهنىء القضاء البريطاني بقراره".
قال الرئيس المكسيكي اندريس مانويل لوبيز أوبرادور في مؤتمر صحافي "سأطلب من وزير الخارجية اتخاذ التدابير الضرورية بهدف الطلب من الحكومة البريطانية الإفراج عن أسانج ولتعرض عليه المكسيك اللجوء السياسي"
التهم وموقف الإدارة الأميركية
كان أسانج ملاحقاً في البداية بتهم قرصنة إلكترونية، إلا أن القضاء الأميركي وجّه إليه 17 تهمة جديدة في أيار/ مايو الماضي، بموجب قوانين ضد التجسس. وتتهمه الولايات المتحدة بتعرض المئات من مصادرها للخطر عبر نشره الوثائق المسرّبة. وحتى الساعة لا يُعرف ما سيكون موقف إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن تجاه القضية، لكنّه سيكون حتماً حاسماً في ملف سجنه ومحاكمته. فقد خضع أسانج للمحاكمة خلال ولاية الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الذي يُسلّم حكمه في 20 من الشهر الحالي لجو بايدن. وحتى اليوم، لا تزال العلاقة التي تجمع ترامب وأسانج غامضة. إذ يتّهمه كثيرون بمساهمته بفوز دونالد ترامب بالرئاسة قبل 4 سنوات. وأججت هذه المسألة الشبهات بتواطؤ أسانج مع روسيا، خصوصاً أنه سبق أن تعاون مع شبكة "آر تي" التلفزيونية الروسية الرسمية.
تنديد واسع
ندّد كثيرون حول العالم، بينهم أطباء أسانج، وصحافيون ومحامون بظروف احتجاز "المسرِّب الأكبر في التاريخ الحديث" ومسار القضيّة، مدافعين عن حقّه بالكرامة، وشاجبين ظروف سجنه، بالإضافة إلى تعامل القضاء مع الصحافيين الاستقصائيين الذين يسرّبون حقائق تعود بفائدة أكبر على الرأي العام من فكرة كسر قانون التسريب.
ندّد كثيرون حول العالم، بينهم أطباء أسانج، وصحافيون ومحامون بظروف احتجاز "المسرِّب الأكبر في التاريخ الحديث" ومسار القضيّة، مدافعين عن حقّه بالكرامة
وأشارت ستيلا موريس، محامية أسانج التي أصبحت شريكته وأنجب منها طفلين، في مقابلة مع صحيفة "دير شبيغل" الألمانية، أول من أمس الأحد، إلى أن أسانج الذي يقبع حاليّاً في سجن بيلمارش شديد الحراسة في لندن، إلى أنه "لم يلتقِ بأيٍّ من محاميه منذ آذار/ مارس". ونددت قائلةً إن "فريق الدفاع عن جوليان لم يتمكن من أداء عمله على نحو كبير... الوضع في سجن بيلمارش لا يقارن بظروف الاعتقال التي سيتعرض لها في الولايات المتحدة إذا سُلِّم"، معتبرةً أن أسانج "سيُدفن حيّاً".