استمع إلى الملخص
- قررت محافظة دمشق إزالة أكشاك الكتب المستعملة تحت جسر الرئيس، مما أدى إلى تدمير العديد من الكتب. كانت هذه البسطات مرجعاً ثقافياً مهماً، ورفض أصحابها بيع الكتب المقرصنة.
- أثار القرار استنكار المثقفين والفنانين، ورفضت المحافظة التراجع عنه. تسعى لإيجاد بديل لأصحاب البسطات خارج دمشق، مما يثير مخاوفهم من فقدان مصدر رزقهم.
يصطف مئات الموظفين وطلاب المدارس والعمال، يومياً، في طرقات دمشق، عند تقاطع شارع الثورة وتحت جسر الرئيس منتظرين وسيلة نقل عامة يستطيعون استقلالها في أزمة المواصلات الخانقة التي تعانيها العاصمة السورية منذ شهر ونصف. تبقى صفوف الناس في الانتظار والتدافع حتى ساعات الليل، تغزو العشوائيات مختلف المناطق في دمشق مثل سوس ينخر ولا يتوقف. تكسو أسطح المباني ألواح الطاقة الشمسية كحلّ فردي لأزمة الكهرباء التي لم تنتهِ منذ عشر سنوات. إلى جانبها، تتربع خزانات المياه البلاستيكية الحمراء، وتتجمّع القمامة عند الزوايا وتطوف من الحاويات يتجمع فوقها النباشون (أطفالاً ونساء ورجالاً) يفرزونها بحثاً عن لقمة عيشهم. تنتشر الأكشاك التي خُصصت للعساكر المصابين، إذ يحق لكل عسكري مصاب بإعاقة ترخيص كشك. تحتل أكشاك بيع الدخان المهرّب والمشروبات الأرصفة، تسود الظلمة شوارع دمشق ليلاً، فلا قدرة للمحافظة على إيجاد حل للكهرباء كون الدولة لم تستطع إيجاد حلّ لها، فهي ليست مسؤولية المحافظة.
تنتشر بسطات تبيع كل المنتجات، بسطات متنوّعة من الهواتف والأدوات الإلكترونية المسروقة بغالبها، إلى بسطات بيع الغذائيات التي تقدّمها مؤسسات الإغاثة. يغزو الفقر سورية وينهش وجهها، لا جماليات في وجه الفقر، بإمكان الجوع تدمير أي معلم جمالي، لا شيء للسوري في سورية ولا أحد يكترث لجماليات شارع ليس له.
إلا أن محافظة دمشق كان لها رأي آخر. ففي وسط الحرب الدائرة في كلّ من غزة ولبنان، تُقصف المدن السورية يومياً ويكتفي الإعلام الرسمي بتوضيح تعرض سورية لضربة من دون أي بيانات وتصريحات أخرى. يُزال الردم والدمار بعد كلّ ضربة وتستمر الحياة اليومية لملاحقة لقمة العيش في شوارع دمشق، أما المحافظة فتقرر في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي الإغارة على منطقة تُعرف بـ"تحت الجسر"، مستهدفةً أكشاك الكتب المستعملة التي ارتأت اليوم أنها تشوه جماليات المدينة.
بواسطة شاحنات وجرافة، توجّهت المحافظة إلى تحت الجسر لتُعطي أصحاب الكتب مهلةَ ساعة لنقل ممتلكاتهم، التي يصل عددها كما يقول أبو هيثم (صاحب إحدى البسطات) إلى أكثر من 100 ألف كتاب، لم يستطع تأمين نقلها، وجُرّفت وكُدِّست ونُقِلت للحجز، ليغدو تحت الجسر عارياً.
يشكل جسر الرئيس، وما تحته، منطقة حيوية مهمة من العاصمة؛ فهو متربع وسط نقطة التقاء كليات جامعة دمشق، وهو حلقة وصل بين العديد من المناطق، خصوصاً عشوائيات دمشق، فهو كراج تنطلق منه الميكروباصات لمختلف المناطق. أما تحته، وإلى جانب الركاب المنتظرين، تتربع البسطات والسيارات والباصات، وعلى يمين تحت الجسر تفترش الأرض منذ 25 عاماً بسطات الكتب المستعملة التي تحضر في ذاكرة طلاب الجامعات وأي مثقف سوري.
كانت هذه البسطات وأصحابها متنفساً للعديد من السوريين، إذ تُباع عليها الكتب بأسعار رمزية، إضافةً إلى احتوائها على عناوين وطبعات نادرة. ويشكل أصحابها، مثل الراحل أبو طلال، مرجعاً للعديد من الطلاب، بذاكرتهم واطلاعهم.
تحت الجسر نستطيع أن نجد الطبعة الأولى لديوان "وعل في الغابة" لرياض الصالح الحسين، ونستطيع تأمين مجلة الكرمل والعربي، وأعداد مجلة الوحدة. بإمكاننا أن نوصي العم أبو هيثم ليؤمن لنا كتاباً مفقوداً. وبالإمكان فتح حديث لساعات مع أصحاب الكتب عن الشعر والأدب والمسرح.
شكّلت هذه الكتب في السنوات الأخيرة، بعد انقطاع سورية عن استيراد الكتب وإغلاق المكتبات ودور النشر أبوابها، مثل مكتبة "نوبل" و"ميسلون"، المرجع الوحيد للعديد من الناس. رغم الصعوبات التي عانتها البسطات بعد توسع انتشار سوق الكتب المقرصنة، ظلت هذه المكتبات صامدة، بالرغم من أنها لا تقدم ما يكفي قوت يوم أصحابها، إذ غزت الكتب المقرصنة مكتبات دمشق، فنجد الكتاب المسروق معروضاً تحت اسم دار نشر وهمية، وبسعر لا يعادل الـ20% من سعره الأصلي. رفض عام 2018 أصحاب هذه البسطات وجود الكتب المقرصنة بينهم، وحافظوا على وتيرة عملهم كما كانت سابقاً، ليتحولوا مع الزمن إلى ما يشبه الأنتيكا. وجودهم كان يطغى على قباحة جسر الرئيس، فتلك البسطات وأصحابها هي المعلم الجمالي الوحيد في منطقة تعجّ بالقبح.
استنكر العديد من العاملين في مجال الثقافة قرار المحافظة ورفعوا بياناً إلى وزارة الثقافة لإدانة الانتهاك الذي تعرضت له هذه البسطات وأصحابها، ولكن ردّ المحافظة كان بالرفض، مشيراً إلى أن القرار نهائي، بحجة أنه كان عليه أن يطبق منذ عام، بعد الخطة التي وضعتها المحافظة لإعادة تأهيل المنطقة، عبر إحدى الشركات التي لم تعلن عن نفسها، ولكنها أعلنت أن التشويه البصري في دمشق عليه أن يتوقف.
بعد اعتراض المثقفين والفنانين، أقرت المحافظة أن أصحاب الكتب المصادرة بإمكانهم أن يتسلموها من الحجز، ولكن ليس باستطاعتهم إعادة فتح بسطاتهم. وفي المقابل، تسعى هي إلى إيجاد بديل لهم خارج طرقات دمشق الرئيسية. يقول أبو هيثم: "هذا قتل بطيء، عملي مرتبط بهذا المكان. الآن سترمينا المحافظة خارج دمشق في الضواحي، كما فعلت بسوق الحرف اليدوية".
كان أبو هيثم يشعر منذ العام الماضي بعد إغلاق سوق الحرف اليدوية التاريخي في منطقة التكية السليمانية بأن عملهم لن يدوم، وبأن الشارع ليس ملكهم؛ فبقرار يشبه الذي طبّق اليوم، ولكن أسبابه كانت أوضح، قرّرت المحافظة إغلاق سوق الحرف اليدوية لكي تستثمر الأمانة السورية للتنمية بالتكية السليمانية. "الأمانة السورية" مؤسسة لاربحية تُشرف عليها وتديرها أسماء الأسد.
لا تبعد التكية السليمانية عن تحت الجسر أكثر من خمس دقائق مشياً. أقامت فيها "الأمانة السورية" مشاريع صناعة صابون بعد إغلاق محلات البروكار والفضة والسجاد. على زاوية جسر الرئيس ويمين مقبرة الكتب يقع أيضاً مشروع الوردة الدمشقية، وهو مشروع لـ"الأمانة السورية" للتنمية أُنشئ على أرض مدينة المعارض وتوقف العمل فيه عام 2011، ويُمهّد لعودة العمل به اليوم بعد أن استخدم مركزاً لتجميع عناصر الأمن خلال سنوات الثورة. كانت هذه البسطات وأصحابها يقفون في منتصف احتكارات "الأمانة السورية" التي تحاول رسم الصورة الثقافية الجديدة للمدينة.
على العكس من أبو هيثم، يرى محمود، وهو صاحب بسطة صغيرة بدأ بالعمل إلى جانب سوق الكتب المستعملة بعد أن رفض العمل بسوق الكتب المقرصنة، أن الدافع وراء فعل المحافظة هو فشل معرض الكتاب الذي افتتح في السابع من الشهر الماضي، وشهد إقبالاً ضعيفاً.
لا تقتصر محاولات تشويه ما بقي من دمشق على سوق الكتب، فالأخبار والشائعات تنتشر في سورية يومياً، إذ تتداول الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشوارع أن المحافظة باعت حديقتي السبكي والجاحظ، وهما من المناطق الخضراء القليلة والأخيرة التي بقيت في وسط دمشق، إلى مستثمرين لكي يقيموا مكانهما كراجاً للسيارات للتخفيف من الازدحام المروري.
ينتظر اليوم أبو هيثم ومحمود استعادة ما بقي من كتبهما التي لم تمزق وتتلف أثناء الجرف، ويتأملون حلولاً لا يكونان فيها قد أفسدوا المشهد البصري لقلة من الناس تحكم المدينة.