استمع إلى الملخص
- **البودكاست كمنصة للحوار السياسي**: تحول بودكاست جو روغان إلى وسيلة للاسترخاء واختبار الحماقة، حيث استضاف فون شخصيات سياسية بارزة، مما أثار تساؤلات حول جدية هذه الحوارات.
- **الكوميديون كبديل للمثقفين**: يعتبر الكوميديون مثل جيري ساينفلد "سلالة مختلفة" قادرة على قول الحقيقة، مما يعكس غياب المثقف المؤثر في الحوار السياسي ويثير تساؤلات حول تأثيرهم.
تنتشر بشكل كبير في الفترة الأخيرة مقاطع الريلز الخاصة بالكوميديان الأميركيّ ثيو فون على منصات التواصل الاجتماعي. ولا مبالغة إن قلنا إن الكوميديان الساذج، والمعروف بحكاياته المضحكة وشديدة الغرائبيّة، نال شهرة غير مسبوقة، خصوصاً أنه ينتمي إلى "عصبة جو روغان"، أي أولئك الكوميديين الذين تكرر ظهورهم في بودكاست جو روغان إلى حد أصبحوا نجوماً، وأنشأ كل واحد منهم البودكاست الخاص به.
ثيو فون يمثل الشاب الأميركيّ المبتذل، صاحب الحياة الغريبة، والثقافة السياسية شبه المعدومة، وهو ما اتضح حين استضاف باسم يوسف الذي هيمن على الحلقة، وترك فون فاغر الفم أمام كم المعلومات التي قدمها عن سطوة إسرائيل في الولايات المتحدة، تلك التي لم تنجح سذاجة و"حماقة" مستضيفه في بعض الأحيان في إكسابها طابعاً أقل جديّة.
النموذج الذي يقدمه فون للأميركيين يتمثل بالبساطة والغياب عن الساحة السياسيّة والاكتفاء فقط بالمغامرات والرغبة بـ"قضاء وقت ممتع". هذا النموذج الذي اكتسب شعبية واسعة نراه فجأة يحاور بيرني ساندرز، الحلقة التي نالت حتى كتابة هذا المقال أكثر من مليوني مشاهدة. فما الذي يمكن أن يتحدث عنه أحد أبرز الأصوات الديموقراطية الاشتراكيّة مع شاب ساذج مضحك، حرفياً لا يفهم الكثير من الكلمات الإنكليزيّة؟
يهمين ساندرز على الحديث، بل تبدو حتى لفتة لطيفة أن يشارك في البودكاست في محاولة لمخاطبة جمهور أوسع، لكن المفارقة أن ثيو فون التقى بعدها دونالد ترامب، المرشح الرئاسيّ الحالي، لخوض حديث غريب، لا يبدو فيه فون أكثر من مراهق يطرح أسئلة على رجل محنّك قادر على إدارة الحوار والإجابة بما يريد.
نضرب هذه الأمثلة كون صيغة البودكاست في حالة فون وقبله جو روغان الذي استقبل ساندرز أيضاً وخاض معه حواراً طويلاً تحوّل إلى شكل من أشكال الخطاب السياسيّ المتخفف من جديّة الأخبار وتحيّزها السياسيّ. لكن في عرض الكوميديا الأخير لجو روغان الذي بثته منصة نتفليكس "أحرقوا القوارب"، يقول روغان إنه مجرد شخص يطرح أسئلة ولا يجب أخذ النصح منه أو حتى تصديقه في الكثير من الأحيان، أي ببساطة صاحب العرض الذي وصف بـ"الممل" و"المبتذل" يقول للجمهور لا تصدقوا ما أقول، تسلوا فقط، فلماذا يرضى أن يظهر معه مرشحون للرئاسة الأميركيّة؟ هل هو أسلوب للاقتراب من الناخبين؟
يمكن القول إن البودكاست في حالة جو روغان و"شلته" لم يعد فقط وسيلة للاستثمار في اقتصاد الانتباه والانتشار، بل فضاء لاختبار الحماقة، وتحويل الحوار السياسي المجدي إلى مساحة للاسترخاء، أي بصورة ما، نحن أمام فضاء للثرثرة، التي لا تختلف كثيراً عن السياسية إن أردنا المبالغة، لكن مع شعبوية لا يمكن تجاهلها، خصوصاً أن صيغ البودكاست هذه تدّعي أنها تمثل الأميركيّ العادي.
هناك جانب آخر أيضاً يتعلق بالكوميدي نفسه، ذاك الذي وصفه جيري ساينفلد بوصفه من "سلالة مختلفة من البشر"، ما أكسب الكثير من الكوميديين هالة من نوع ما بوصفهم قادرين على "قول الحقيقة" في اللحظات الحرجة. وهنا الإشكالية، فنموذج الحوار المقدّم هنا، مع الأطياف السياسيّة المتعددة، يحيلنا إلى مفهوم أميركيّ متكرر الذِّكر، وهو غياب المثقف، أو بصورة ما، غياب الشخص القادر على الحوار والتأثير، الذي يبدو أنه استُبدل بالكوميديّ الساذج، خفيف الظل، الذي لا يواجه ضيفه بالحقائق والحجج، بل النكات والحكايات الذاتيّة.
ربما هذا هو شكل "الحوار" في الولايات المتحدة الآن، وانفتاح البودكاست بأدوات بسيطة، والتخفف والنكتة، قد يحدث أثراً، لكنه في ذات الوقت، يتركنا أمام سؤال خاص بالجمهور نفسه، وقدرته على الاقتناع، إلى حد أن يضطر السياسي إلى مخاطبة الكوميديّ. ربما هي مفارقة تاريخيّة، أو شكل من أشكال الاستعراض حيث لا خطاب قادراً على مواجهة السياسي سوى الكوميديّ، وهنا تأتي الخطورة، من علينا أن نصدق؟ فكلاهما نظرياً، يعتمدان الكذب والمبالغة لجذب الانتباه.