في حوار أجراه معه الصحافي بنجامان بارت ونشرته صحيفة لوموند الفرنسية في عددها الصادر أمس الأحد، يقول الباحث والمستشار في قضايا الشرق الأوسط، بيتر هارلينغ، إن مدينة غزة "لم تعد ساحة معركة، بل هدفٌ" للجيش الإسرائيلي في حربه التي يشنّها على القطاع الفلسطيني وأهله منذ نحو خمسة أشهر.
ويشبّه هارلينغ، المقيم في بيروت، الدمار الهائل الذي سبّبه القصف الإسرائيلي على قطاع غزة بما عرفته مدنٌ هاجمها النازيون أو الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، وأُخرى دمّرتها أميركا، مثل هيروشيما. يقول: "دخل تدميرُ المدن السجلَّ الاعتيادي للحروب بدءاً من أربعينيات القرن الماضي. لدينا ألمانيا النازية التي تقصف المدن الإنكليزية لهدم الروح المعنوية لدى الخصم (مثل قصف لندن، المعروف بالبليتس، بين 7 سبتمبر/ أيلول 1940 و21 مايو/ أيار 1941)، وكذلك الحلفاء الذين أبادوا مدينة كون الفرنسية فجأة (في صيف 1944)، جاعلين من المدنيين ضحيّة في سبيل الأهداف العسكرية. وثمة مدن ألمانية، مثل دريسدن (في فبراير/ شباط 1945)، تعرّضت لطوفان من النيران بهدف دفع معاناة السكّان فيها إلى أقصى حدٍّ ممكن. وهناك هيروشيما (في 6 أغسطس/ آب 1945)، حيث كان من الممكن للولايات المتّحدة أن تكتفي بالكشف عن قدراتها النووية، لكنّها فجّرت قنبلتها على ارتفاعٍ نجمَ عنه أكبر قدر ممكن من الدمار. الحرب ضدّ غزة تأتي ضمن هذه السلالة من الحروب، حيث المدينة لم تعد ساحة معركة، بل هدفٌ".
وردّاً على سؤال بارت، المختصّ هو أيضاً بقضايا الشرق الأوسط، حول ما يعنيه بشكل ملموس تدميرُ مدينة في الشرق الأوسط، يجيب هارلينغ: "لطالما استهدفت الحروب جسَدَ الخصم: فهي لا تسعى إلى تدميره فحسب، بل إلى اغتصابه وتعذيبه والتنكيل به. والمدينةُ هي ما يمثّل هذا 'الجسد' الخصم. في سورية، وصف النظام الأحياء التي كان يبيدها بأنها 'حاضنة' للإرهاب. إبادة مدينة ما تعني لي، اغتصابها والتنكيل بها، وليس تدميرها فحسب. ولهذا، فإن الإسرائيليين يولون اهتماماً خاصّاً بتدمير الرموز التي تمثّل مدينة غزة وبدمٍ بارد: رموز مثل التراث الثقافي، والجامعات، والمساجد، والمقابر، وغيرها".
وعن تاريخ تدمير المدن في المنطقة، يضيف: "قبل غزة ثمة الفلّوجة التي هدّمها الجيش الأميركي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004؛ وثمة حلب التي سحقها قصف النظام السوري بين عامي 2012 و2016، ومن ثم هناك الموصل والرقة، اللتان دُمّر قسمٌ كبيرٌ منهما خلال الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، بين 2016 و2017. ثمة أمثلة أُخرى، مثل مخيم نهر البارد للّاجئين الفلسطينيين في لبنان، الذي دُمّر دماراً شبه كامل، هو أيضاً، عام 2007. تدميرُ غزة ينتمي، إذاً، إلى عملية إبادة للمدن في الشرق الأوسط".
وحول مسألة إعادة الإعمار، التي يستعرضها ضمن سياق أوسع يشمل العديد من المدن والعواصم العربية، يقول الباحث إن "إعادة الإعمار فعلٌ سياسي بامتياز: فالمرء لا يعيد إعمار مسكنٍ فقط، بل يعيد بناء تعريف لنفسه أيضاً. أمّا في العالم العربي، فالمدن المدمّرة هي أماكن لا يرغب فيها أحد، باستثناء سكّانها المتروكين لينزعوا أشواكهم بأيديهم. هذا الازدراء ذو طبيعة سياسية هو أيضاً: فمَن يُدمِّر يعتقد أنه ليس مسؤولاً أمام السكّان المطالبين بأن يخضعوا له من دون مقابل".