نستيقظ صباحاً فتسارع زوجتي للقول إنّ اليوم بارد وممطر، فأجيب: أين المطر؟ الجو حار هنا، فتقول: لا، أقصد أنّ المطر في الشام.
منذ أيام، فُقد البصل في سورية، فكفّت زوجتي عن استخدامه، فأجبتها أن النظام قد منح السوريين (كلّ شيء مكرمة من النظام) اثنين كيلو من البصل أسبوعياً على البطاقة الذكية، إذاً فلتسمحي لنا بنفس الكميّة.
لم يعتد أبي وأمي رغم السنوات التي قضياها في إسطنبول على عطلة يوم الأحد، وما زالا يصرّان على إفطار مميّز يوم الجمعة، إما من المامونية الحلبية مع الشعبيات والقيمق، أو الفول والفتة والفلافل.
إخوتي الموزّعون في أوروبا يحلفون الأيمان أن الجبنة الحلبية المشلّلة والمسنرة أفضل من كل أنواع الأجبان الفرنسية والهولندية.
ما زالت عائلتي، مثل معظم العائلات السورية، تعيش على إيقاع وتوقيت سورية بكل التفاصيل رغم سنوات اللجوء الطويلة، وما زال أفرادها يحسبون قيمة كل شيء بالليرة السورية، عندما كان الدولار بخمسين ليرة، ويحسبون ماذا تفعل كلّ فاتورة لهم ولأهلهم الجائعين المحرومين الآن.
استطاع فيلم "تحت سماء دمشق" أن يضعنا في قلب المأساة السورية مهما حاولنا الابتعاد عنها، فهو يعيدنا إلى دمشق المتعبة الحزينة الكئيبة بانكسارات أهلها وافتقارهم إلى أدنى مقومات الحياة العادية.
يُظهر الفيلم ليل دمشق بدون كهرباء ولا دفء، فيما الأطفال يلتقطون بقايا الطعام من النفايات، والناس تصطف في الطوابير لشراء الخبز وللحصول على الطعام من الجمعيات الخيرية. أمّا السرفيسات والنقل العام فمزدحمة طوال الوقت، بينما يسيطر لونٌ أسود على الأزقة وعلى حيطان الأبنية، ويتّضح الشرود على وجوه الناس في الشوارع.
يعكس الفيلم من خلال نقاشات وخلافات مجموعة من الصبايا، اللواتي يعتزمن إنتاج مسرحية، كل آثار الحرب والدمار الذي أصاب البلد وقضى على أي حلم أو أمل في حياة كريمة.
لا تفهم الصبايا المبدعات المتحررات، ومعهن جيل من الشباب، لماذا وقعت الحرب ولماذا صارت الحياة بائسة، بل إنّ بعضهن وبعضهم، كما نشاهد في الفيلم، لا يحاول أن يفهم حتّى، لأنّ ذلك سيزيد من عمق أزمته.
تريد الفتيات أن يعشن حياة طبيعية ويرغبن في التعبير عن مواهبهم الإبداعية، ويقرّرن كتابة وإخراج مسرحية عن العنف والتحرش الجنسي الذي يتعرضن له.
وفي أثناء البحث والكتابة، تقوم الفتيات بزيارات إلى مركز للصم والبكم ومستشفى للمجانين ومعمل، هناك يتعرّفن على وجه آخر لدمشق لم يعرفنه من قبل، وجهٌ كالح بندوب لا تخطئها العين، يفصلهن عنه "تقطيعة شارع".
هل العنف والتحرش الجنسي مشكلة زائفة أو على الأقل مشكلة ثانوية لما حصل ويحصل في سورية؟ يجيب صناع الفيلم بأن هذه المشكلة تنمو وتزداد وتقتات من الحرب، وبأنها معيار حقيقي لمعرفة آثار القتل والدمار والهجرة، فالمرأة غدت هي المسؤولة عن الأسرة وإعالتها وازداد الطلاق والعنف وحالات الاغتصاب. وهذا العنف يضرب المجتمع بأكمله، فالكلّ متورطون فيه ويدفعون ثمنه، مثل نجمة التلفزيون صباح السالم، والتي اعتقلت بتهمة المخدرات قبل الثورة وخرجت بعدها، وتقول إنّ تهمتها ملفقة، وهو الأرجح. فالكل يعرف أنّ هناك الكثير من مدمني المخدرات بين الفنانين وغيرهم في سورية، ومن بينهم نجم غناء كرّمه الأسد منذ فترة.
ويمضي الفيلم لنشاهد آثار العنف الذكوري عبر قصص نساء معنفات، من نخبة المجتمع إلى قاعه، مروراً ببطلات الفيلم اللواتي يهدّدن من قبل أحد المنتجين الذين يطالبهم بالسكوت عن التحرش، لكنّهن ينتصرن على خوفهن في النهاية.
شكراً لمجموعة الصبايا وللمخرجين الثلاثة: طلال ديركي وهبة خالد وعلي وجيه، الذين أثبتوا أنّ هموم السوريين في الداخل (السجن بدون جدران على حد تعبير الفنانة صباح السالم) والمقهورين في بلدان اللجوء واحدة، وأنّ التعاون بين مبدعي الوطن في الضفتين ممكن، وأنّ الانتماء المذهبي والطائفي والعائلي ليس هو مقياس المواطنة.
يذكر أنّ فيلماً للمخرجين إسماعيل أنزور ورشيد جلال بذات العنوان قد أنتج عام 1932، وكان ثاني فيلم سينمائي ينتج في سورية ويتحدث عن التفاوت الطبقي حينها، بين بنية تقليدية ومحافظة وفقيرة ومتوسطة، وبين حياة الأغنياء الجدد والقدامى والمتهتكة، ولكن عرضه أوقف بطلب من السلطات الفرنسية.