(*) وجه الحادجي مودو مْبو مُعبّر جداً. مشيته مُثيرة للاهتمام. يُقال إنّ الممثل الجيد يلوح من مشيته. هل سبق أنْ مارس الرقص أو المسرح؟
لا، أبداً. ليست له أيّ تجربة في أي نوع من الفنون. لكنّه يقوم بشبه تحوّلٍ، كلّما اقترب موعد التصوير. عندما جلستُ لأحدّثه للمرة الأولى في "مقهى فرنسا"، في وسط الدار البيضاء، قال لي إنّ هذا الفيلم يُجسّد قصته. هاجر مشياً على القدمين إلى المغرب، انطلاقاً من توبا في وسط السنغال، عبر دكار، مروراً بموريتانيا، ثمّ الداخلة، قبل أنْ يتلقّفه أصدقاؤه من أكادير بالسيارة. كانت رحلته شاقّة للغاية، وعندما حكى لي ما عاشه في الطريق، ظللتُ مشدوهاً من هول الأحداث التي تعرّض لها.
(*) كيف التقيتَه؟
أجريتُ كاستنغ في ورزازات، لكنَّ أحداً لم يُلبِّ ما أبحث عنه. فتّشتُ في مراكش، من دون فائدة أيضاً. حين ذهبتُ إلى الدار البيضاء، تزامن ذلك مع تصوير فيلم صيني ذي موازنة ضخمة، فأخبرتُ نور الدين أبردي، الذي كان يشتغل مساعد مخرج، هذا الأمر، فقال لي إنّهم سينظّمون كاستنغ كبيراً، ومن المشاركين سيكون هناك أشخاص من جنوب الصحراء. دعاني إلى مُعاينتهم. ذهبتُ في اليوم التالي، وجلستُ جانباً أتابع المشاركين عند دخولهم إلى قاعة الكاستنغ. كان عددهم يناهز 50 شخصاً. لاحظتُ الحادجي، الذي كان يرافق أحدهم، فناديت هذا الأخير وتحدّثت إليه، لكنّي وجدتُ شخصيته أخفّ من الدور. رأيتُ الحادجي منزوياً في هدوء صوفي، فأثار انتباهي. وعندما جلسنا في المقهى، وحكيتُ له قصة الفيلم، بكى. مرّ التيار جيّداً بيننا، فعرفت أنّي وجدت شخصيتي الرئيسية.
(*) ماذا عن حسن ريشيو، الذي لا نعرف عنه شيئاً. من أيّ خلفية أتى؟
حسن صيدلي سابق. شخصٌ مثقّف، عاش جزءاً من حياته في أوروبا، قبل أنْ يستقرّ في ورزازات، حيث فتح صيدلية. عندما تقدّم في السنّ، افتُتن بالسينما، وبدأ يشتغل ككومبارس في الأفلام الأجنبية. اشتغل كثيراً في هذا المجال، فاكتسب خبرةً كبيرة، أصبح يعرف بفضلها محاور الكاميرا، وكيفية التحرّك في البلاتو. لكنه لم يمثّل أبداً دوراً مهمّاً قبل "أوليفر بلاك".
(*) مشهد اللّغم مؤثّرٌ للغاية، ويدين في ذلك بالكثير لأداء الممثّلَين، خاصة حسن ريشيو، في جمل الحوار التي يتحدّث فيها عن شرط التقدّم في العمر، ودنوّ الأجل. تتحلّل تعابير وجهه، التي ركّزتَ عليها بلقطة مقرّبة، مُعطيةً الانطباع بمشاهدة كائن غرائبي، غادره كلّ أثر للآدمية.
ما وقع في هذا المشهد مُرتبط بأنّي لا أنجز أي تقطيع تقني قبل التصوير. لم أقطّع أبداً أيّ مشهدٍ منذ أنْ بدأت الإخراج. أتخيّل نوعاً ما تقطيع المشهد في ذهني، قبل بدء التصوير، وعندما آتي إلى البلاتو، أغمض عينيّ وأرى كلّ شيء. مشهد اللّغم طويل جداً، يقع في 10 صفحات كاملة من السيناريو. حين أردنا تصويره، قرّرنا البدء بمشهد عام من اتجاهين، على طريقة الوسترن. بعدها، قلتُ لإسماعيل الطويل (مدير التصوير ـ المحرّر): "فلنقتحم المشهد". بدأنا نُنوّع الزوايا والمحاور والسلالم. يحتوي هذا المشهد على 68 لقطة، وأزلتُ منه دقيقتين في المونتاج، أغلبها من الحوار.
(*) هل واجهتَ مشاكل في التقاط الصوت؟
أول مشكلة قلّة المعدّات. كما أنّ مهندس التصوير لم يلتحق بنا سوى في ليلة بدء التصوير. ظللتُ أبحث طيلة أسبوعين من دون جدوى. الجميع كانوا يطلبون مستحقاتهم فوراً، إلى أنْ عثرتُ على فؤاد زريول من الدار البيضاء، وذهبنا مباشرة إلى التصوير، بعد لحظات قصيرة من التعارف.
المشاكل الحقيقية بدأت في ما بعد التصوير. كانت عمليات الصوت والصورة معاناة كبيرة، دامت 3 أعوام كاملة، بسبب قلّة الإمكانات. اقترح عليّ عصام راجا، الذي له تجربة في أفلام المؤسسات، أنْ يضطلع بالمونتاج، فرحّبت بالأمر. لم أكنْ أعرفه جيداً، لكنّي علمت أنّه متزوّج، وله التزامات عائلية، وبالتالي، كلّما جاءه عملٌ مؤدّى عنه، كان يترك المشروع جانباً، ريثما ينتهي منه. أنا أتفهّم هذا. اقترضت رباب 40 ألف درهم لاقتناء محطة مونتاج احترافية، أصبحتْ الآن مُلكها، استفدنا منها كثيراً. جلستُ مع عصام نوضّب المشاهد المصطفاة جنباً إلى جنب، اعتماداً على ملاحظات السكريبت، وبدأتُ أحكي له عن تصوّري لإيقاع الفيلم، والبطء التأمّلي الذي أردتُ أنْ أطبع به المشاهد، بينما هو كان يحثّني على تسريع الإيقاع، في كلّ مرة، قائلاً: "هيّا، دعنا نسرع قليلاً" (يضحك).
(*) هذا شعار الشباب اليوم. المزيد من السرعة دائماً. لكنّ الأمر مُثيرٌ للاهتمام، لأنّ هذه الجدلية بينكما ربّما منحَتْ الفيلم حيوية في الإيقاع.
تماماً، معك حقّ. أثّر كلّ منّا في الآخر. عندما انتهينا من توليف الصورة، جاء موعد مونتاج الصوت، لكنْ لا استديو، ولا إمكانات لاستئجاره. أقنعَتْ رباب (رباب أبو الحسني، مُنتجة الفيلم ـ المحرّر) فنسان ميليلّي (مدير "المدرسة العليا للفنون البصرية ـ إيساف" في مراكش ـ المحرّر) بتمكيننا من الدخول إلى قاعة مونتاج المدرسة، لكنْ شرط أنْ نبدأ بعد انتهاء الطلبة من مشاريعهم، في الأول من أغسطس/ آب، وأنْ ننتهي في 31 من الشهر نفسه، ليبدأ طلبة الماستر مشاريعهم. كان أمامنا شهر واحد فقط لإنهاء مونتاج الصوت والميكساج والموسيقى أيضاً. أمضينا شهراً في الركض في كل الاتجاهات، وتجريب كل الفرضيات. كان في حوزتنا 2 تيرابايت من المادّة الفيلمية.
أنجزنا 3 نسخ في المونتاج، مدّة أولها 107 دقائق، ثمّ أزلنا 14 دقيقة، وغيّرنا نهاية الفيلم في النسخة الثانية. حصلتُ على دعمٍ لعمليات ما بعد الإنتاج في إيطاليا، واقترحتُ عليهم عصام كمونتير، لكنّهم رفضوا، وأصرّوا على أنْ يقوم بالمونتاج تقنيٌّ إيطالي. لم يُكلّل الأمر بنجاح، لأنّي لم أرغب في إخلاف وعدي وكلمتي مع عصام.
(*) حتى الموسيقى غريبة جداً، بالنسبة إلى نوع الفيلم، نظراً إلى إيقاعها السريع، واعتمادها على مراجع جريئة، كالإحالة إلى مقطع "هكذا تكلّم زرادشت" لريتشارد شتراوس، المرتبط بـ"2001 أوديسا الفضاء" لستانلي كوبريك.
حين اقترحها عليّ مؤلّف الموسيقى، توجّست فعلاً من الأمر، لكنّه أقنعني في النهاية. كانت لديّ فكرة عن الموسيقى تتمحور حول قيثارة شجية وجافّة نوعاً ما. التقيتُ موسيقياً من بني ملال، أمضيتُ شهرين في النقاش معه حول الموسيقى المناسبة للفيلم. لاحظتُ هوسه المطلق بالموسيقى المغربية، ورفضه لأيّ رافدٍ أجنبي. حاولتُ إقناعه بأنّ الفيلم لا يتوجّه إلى المغرب فقط، وأنّي أسعى إلى إعطائه بعداً كونياً. فوجئتُ باقتراحه موسيقى زَيان (قبائل أمازيغية، تستوطن جبال الأطلس المتوسّط ـ المحرّر)، التي لم نتوافق بشأنها، سوى موال تاماويت. انتهى الأمر بيننا بخلاف جذري، فافترقنا. عندها، اقترحت عليّ رباب شاباً من وجدة يُدعى زكريا نويه، ما إنْ رأى الفيلم حتّى أُعجب به، وأبدى استعداده للعمل، واقترح عليّ الموسيقى التي سمعْتَها في الفيلم، مع بعض التغييرات الطفيفة التي أدخلناها عليها.
أرى أنّ الموسيقى مؤاتية للفيلم، ما عدا تحفّظي على بعض الاستعمالات، مثل ملاحظةٍ أبداها داود أولاد السيد، أجد أنّها صائبة، حول مشهد جرّ مودو للحمّالة، بعد مرض الشيخ، الذي كان سيبدو أقوى لو سمعنا صوت احتكاك القوائم مع الرمال، بدل الموسيقى التي غطّت عليه.
(*) هل توقّفت محنكم عند نهاية مهلة المونتاج، أم استمرّت بعدها؟
لا، لم تنته عند هذا الحدّ. لا ننتهي أبداً من عملٍ فنّي، كما يُقال. في 31 أغسطس، أتذكّر أنّنا، رباب وعصام وأمين عرّوم (مونتاج وميكساج الصوت ـ المحرّر) وأنا، تركنا العمل في الحواسيب في الاستديو، وخرجنا إلى باحة المدرسة لاستراحةِ تدخين.
لم يكن أحدٌ بيننا يرغب في الخروج من الاستديو مساء ذلك اليوم. ماذا لو حدّثنا فنسان ليضيف أسبوعاً للمهلة التي منحنا إياها؟ أطرقتُ مفكّراً، ثم قلت: "كفى. سننتهي اليوم من الفيلم. أمضينا 3 أعوام كاملة في الاشتغال عليه، وحان موعد ختمه". بعدها، استطاعت رباب أنْ تحصل على الموافقة لعرض الفيلم، تجريبياً، في قاعة سينما المدرسة، التي تتوفّر على مواصفات احترافية. أنجزنا الـ"دي. سي. بي." (حزمة السينما الرقمية ـ المحرّر) بأنفسنا، للمرّة الأولى. لكنّ شيئاً ما لم يكن على ما يرام، لأنّ ألوان النسخة كانت مُشوّهة كلّياً. قمنا بمحاولة أخرى كانت ناجحة، وحصلنا على نسخة جيّدةٍ، وعرضناها في القاعة.
كنا، نحن الأربعة، في الظلام، نشاهد ثمرة مجهودنا على شاشة عريضة للمرّة الأولى. كم من عرق وتضحيات بذلناها في سبيل هذه اللحظة. إحساسٌ لا يوصف. كنّا على وشك ذرف الدموع من فرط تأثّرنا.
بعد ذلك، قمنا بمونتاج نسخة أخيرة من الفيلم، بناءً على الملاحظات التي خرجنا بها من هذا العرض.
(*) أين كان أوّل عرضٍ عام للفيلم؟
في طنجة، بمناسبة "المهرجان الوطني للفيلم". لم أكن أعوّل على اختياره للمسابقة الرسمية، وإذْ بي أفاجأ بمكالمة من "المركز السينمائي المغربي"، تهنّئني على اختياره. كان العرض لحظة استثنائية. قلت للحادجي: "أنظر إلى مآل رحلتك الصعبة، وكلّ التضحيات التي قمتَ بها، تتكلّل هنا في طنجة". جاءت جائزتا التمثيل لتتوّج جهودنا. عندما عدنا إلى ورزازات، نظر الجميع إلينا كأبطال (يضحك).
بعدها، بدأت مرحلة كورونا. استغلّيت الأشهر الـ3 للحجر في مواصلة العمل. بحثتُ كثيراً على الإنترنت، إلى أنْ التقيتُ أميركيين شاهدوا الثريلر، وبدوا مهتمّين باكتشاف الفيلم. كانت دافني زايمان تحدّثني في الهاتف، وتبكي من فرط تأثّرها به. أصرّت على مشاركته في مهرجان للسينما المستقلة في لوس أنجليس، حيث فاز بجائزتي أفضل إخراج وأفضل ممثل للحادجي. بعدها، نادتني وقالت إنّها ستنظّم عرضاً ما قبل أول في هوليوود، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2020. لم أصدّق ما يحدث. لكنّ حظر أجواء كاليفورنيا بسبب الوباء حال دون حضورنا العرض. بعدها، قالت إنّه ينبغي إدخال الفيلم في منافسات "غولدن غلوب"، وهذا ما حدث.
هكذا بدأت رحلة طويلة في المهرجانات، ولا تزال مستمرّة إلى اليوم. كنتُ أتلقى رسائل إلكترونية من أناسٍ من كلّ أنحاء العالم، يُبدون اهتماماً به، ويطلبون حقوق عرضه. وقّعتُ عقوداً لتوزيعه في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وأخيراً مع شركة من الإمارات العربية المتّحدة، من أجل حقوق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أنا على اتصال مع شركة كولومبية لتوقيع عقد حقوق توزيعه في أميركا الجنوبية.
عندما ذهبت إلى الدار البيضاء بحثاً عن إمكانية توزيعه، لقلّة خبرتي في هذا المجال، لم أجد اهتماماً أو مساعدة من أحد. كلّ ما تلقّيته وعود فارغة وتسويف.
تعلّمت دروساً مهمّةً من الفيلم. أكثر الرسائل الإلكترونية إثارةً للاهتمام جاءتني من منتج وموزّع أسترالي، طلب مشاهدته بعد سماعه أصداءً طيبة عنه. بعثت له الرابط في الثامنة مساء، وأجابني عند العاشرة مساءً، قائلاً: "فيلمك سيئ جداً" (يضحك). لم أنسَ أبداً ردّة فعله هذه، من فرط مفاجأتها وطرافتها. قال إنّي تسرّعت في إنجازه، ولو تريّثت لأنجزتُ فيلماً جيّداً. لكنّه أردف مُستدركاً: "رغم ذلك، بدا لي أنّك تتوفّر على رؤية جيّدة. ينبغي عليك إنجاز مشروعك المقبل معي".