في معرضه الشخصي الذي افتتح أخيراً في المتحف الفلسطيني ببلدة بيرزيت بعنوان "المفقودون"، يخلق الفنان الفلسطيني تيسير بركات ابن غزة الذي يعيش في رام الله منذ عقود، عالماً مبنيّاً على الفقدان بمفهومه الواسع: فقدان الحياة بألفتها المعهودة، وفقدان الإحساس بالزمن، وخسارة المكان، وقبل ذلك كله فقداناً لأنفسنا. تعيش شخوص لوحات بركات في عالم من خراب، فتبدو شخوصاً هامشية تُراقِب من بعيد أحياناً، هائمة، وجوهها بلا ملامح، وعيونها لا تَرى ولا تُرى، وحركتها بلا وتيرة واضحة، وهي تتوزع في ثلاث مجموعات من اللوحات.
أولى هذه المجموعات "التيه"، وفيها يتساءل بركات: "أين أنا؟ من أنا؟ هائم. تاهت خضرة الأشياء. هل أنا رجل أم امرأة؟ هل أنا طفل أم كهل أم عجوز؟ هل أنا عصفور؟ ضاع توازن الأشياء. كم الساعة الآن؟ من أي شهر؟ من أي عام؟ سوادٌ مطبق يعلوه ركام. هل أنا ميّت؟ هل أنا حي؟ لا أريد أن أموت. لم تكن ألواني كما ترونها، لم يكن شكلي كما أبدو. أنا لا أعرفني".
"أطياف" تيسير بركات
في "أطياف"، يحلّق بركات فوق المدينة، يُبصر ولا يُبصر في آن، يصرخ بأنه لا يريد الموت، وبأنه متعب، ويتذكر رائحة خبز أمّه. يصرخ، لكن صوته يبقى مكتوماً، لكونه، كما الأشباح التي يراها، واحداً من النازحين الباحثين عن لقمة العيش.
وفي "عالم قيد التكوين"، نذهب رفقة تيسير بركات إلى حيث العتمة ونباح الكلاب المرافقيْن للنازحين، وكأنه الناجي الوحيد من قصف المنزل، أو طفل باتت أخته هي أمه، عاد ليُبصر بائع الحليب، وأستاذ الجغرافيا، والطبيب المناوب في المستشفى، والإسكافي، والبنّاء، والرسّام، والمحامي، والصيّاد، وكأنه أبصر المدينة كلها من أسفل ركام البيت.
يشير بركات، في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أن "منطقة الشرق الأوسط ملأى بالمفقودين، وخاصة في فلسطين، وجاءت حرب غزة لتؤجج المشاعر لديّ، فخرجت العديد من لوحات المعرض التي رُسمت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي"، لافتاً إلى أنه بدأ بالعمل على المعرض قبل العدوان، وأكمله خلاله، وها هو ينتظم في المتحف الفلسطيني.
يقول بركات: "أردت الحديث عن هذا الجرح العميق الذي يعاني منه شعبنا، جرحنا بآلاف المفقودين، الذي توّج بهذه الحرب المتواصلة منذ ما يزيد عن أربعة أشهر على قطاع غزة". وعن رسم غزة في هذا الوقت بالتحديد، يقول تيسير بركات: "لا زلت ملتحماً بغزة، وأهلي يعيشون هناك. هذا الوجع نعيشه منذ الطفولة؛ إذ كان الاحتلال مباشراً للقطاع، وتعمّق بشكل كبير في العدوان تلو الآخر منذ عام 2008. وكأن الحرب الإسرائيلية على غزة مسلسل من القتل والتدمير، ومن الألم المتواصل الذي عشته من طفولتي إلى يومي هذا. الفنان مرآة زمانه ومكانه، وما في دواخله. في داخلي أمل كبير ككل فلسطيني، وأحاول التعبير عنه بطريقة جمالية وحديثة ولغة بصرية عالمية، وليست بالضرورة تبعث على إحساس بالجمال، لعل رسالة لوحاتي هذه تصل إلى العالم، وهذا دور لا بد أن نقوم به".
وينفتح عالم بركات في هذا المعرض على التأويل، وعلى احتمالات عديدة لعالم لا نعرف على وجه التحديد إن كان عالم الفاقدين أم المفقودين، وربّما أنهما سيّان، ففي زمن الإبادة كلنا مفقودون.
ويبني تيسير بركات لمحة متكررة ولا نهائية من ضياع تتوه فيه الحواس، وتضيق اللغة، ويتحجّر فيها الإحساس بالزمان والمكان، فهي لحظة فاصلة بين عالمي الحياة والموت، وعالمي النجاة والهلاك، أما الحدود بين هذه العوالم فهي لا تُرى، أو تكاد، أو أنها ليست هناك بالضرورة، حيث يسود عالم من دمار، ومن هذيان.
نساء غزة
أما زاوية "نساء غزة" التي تتوزع في البهو الداخلي للمتحف الفلسطيني، فهي تروي حكاية نساء جبلت حيواتهن وحكاياتهن بأرضهن وبيوتهن، منها ما سرقته العصابات الصهيونية منهن في غزة التاريخية، فنقلنه إلى غزة الصغيرة ما بعد حرب عام 1967، ومنها ما يرتبط بجغرافيا غزة ما قبل السابع من أكتوبر 2023.
ما إن يدخل الزائر من البوابات الزجاجية للمتحف، حتى تقع عينيه على ثوب في مواجهته، هو "ثوب غزة"، وهو ثوب عمل يومي من منطقة غزة مصنوع من قماش القطن والكتّان باللونين الكحلي والفوشي، ويطلق على القماش اسم "أبو حزّين". صُنعت قبّة الثوب من قماش مختلف، وطُرّزت بأشكال نباتية بقطبة "اللف"، واستخدمت في تطرزيها خيوط من الحرير يغلب عليها اللون الأحمر، وأضيفت القبة إلى هذا الثوب في وقت لاحق.
وتحتوي أكمام الثوب على رقع إضافية من قماش "المخمل الخمري" عند منطقة الأكواع، أما بدن الثوب الأمامي فلا يحمل أي تطريز، بينما أضيفت إلى ذيل البدن الخلفي، لاحقاً أيضاً، ثلاث قطع من قماش مطرّز يشبه ما هو مستخدم في قبة الثوب.
ولهذا الثوب قصة، فهو يعود إلى منطقة غزة، وهو الآن ضمن مجموعة المتحف الفلسطيني الدائمة، بعد أن تبرعت به السيدة نبيلة النشاشيبي، وكانت قد حصلت عليه في سبعينيات القرن الماضي من أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. يبدو أن الثوب تنقل من سيدة إلى أخرى، وطرأت عليه العديد من التعديلات، فقد أضيفت القبّة كما أضيف التطريز على الذيل الخلفي في وقت لاحق. وعلى ما يبدو أيضاً، أن السيدة التي وضعت هذه الإضافات، ليست من غزة، إذ إن التطريز الذي تحمله لا يمت بصلة لما هو متعارف عليه في غزة ومناطقها، ويرجّح أنها لاجئة من إحدى مناطق الساحل الفلسطيني، حصلت على الثوب، وحاولت تكييفه مع ما يناسب حاجتها، وما يشبه أثواب منطقتها.
وتعكس الإضافات والتمزّقات والتعديلات رحلة الثوب الشاقة، كما رحلة صاحباته على مرّ السنين، فكما لجأت النساء الفلسطينيّات، لجأت أثوابهن، وتنقلت من قرية أو مدينة إلى مخيم، في تجلٍّ واضحٍ لقيم التكافل والتضامن بين اللاجئين الفلسطينيين الذين جمعتهم المخيمات إثر النكبة. وفي قوالب زجاجية، يعثر زائر المتحف في رحلته داخل مساحة "نساء غزة" على ثوب يومي من منطقة غزة، يعود لعام 1940، مصنوع من قطن وكتّان وحرير، وست أساور "مجدول مصرية" تعود إلى الفترة بين 1920 و1950، وثلاثة عقود من فترة الانتداب البريطاني تعرف بعقد القرنفل، وعقد مرجان، وقلادة حجاب، إضافة إلى خمس أساور تعرق بـ"الحبيّات"، مصنوعة من الفضة وتعود للعقدين الأولين من القرن الماضي.