مع وفاة جان ـ لوك غودار (13 سبتمبر/أيلول 2022)، أُثير مُجدّداً النقاش حول تعاطفه مع القضية الفلسطينية، الذي يبدو جلياً في مُنجز فترته المتّسمة بالالتزام، واستعاد البعض اتّهامه باللاسامية، الذي بلغ أوجّه عند الإعلان عن فوزه بـ"أوسكار شرفي" عن مجمل أفلامه، عام 2010.
بعد نكسة 1967، تبنّى غودار اتّجاهاً موالياً للقضية الفلسطينية، ومناهضاً للصهيونية، وفاءً لروح اليسار الأممي، الذي رأى في اجتياح إسرائيل أراضي عربية انتهاكاً للشرعية الدولية، وإمعاناً في اضطهاد الشعب الفلسطيني وتشريده، كامتداد جديد للإمبريالية العالمية، في الشرق الأوسط. نهاية عام 1969، تلقّى غودار، ورفيقه من مجموعة "دزيغا فرتوف" جان ـ بيار غوران، عرضاً من حركة فتح، يتمثّل بتصوير فيلم بعنوان "حتى النصر" في المخيمات الفلسطينية في الأردن ولبنان، بموازنة قدرها 6 آلاف دولار أميركي فقط. يروي الناقد والمؤرّخ السينمائي أنطوان دو بِياك أنّ غودار طلب لقاء ياسر عرفات أثناء التصوير، مُستعيناً بخدمات المترجم الشاب الياس صنبر، وطرح عليه سؤالين. الثاني، الذي لم يتلقّ جواباً عنه، تناول رؤية عرفات مستقبل الثورة الفلسطينية؛ بينما حمل الأول في طياته الموقف المركزي لغودار من المسألة اليهودية: "هل هناك علاقة بين معاناة الفلسطينيين ومعسكرات الإبادة؟". أجاب القائد الفلسطيني: "كلّا. هذا تاريخ الألمان واليهود". فقال غودار: "ليس فعلاً. هل تعرف أنّ الجنود الألمان كانوا يطلقون على المُعتَقَل اليهودي، حين يصبح ضعيفاً جداً ويقترب من الموت، تسمية "مسلم"؟". عندها، تساءل أبو عمّار: "وماذا في ذلك؟". فأجابه المخرج: "(...) هذا يُبيّن أنّ هناك علاقة مباشرة بين مِحَن الفلسطينيين ومعسكرات الإبادة".
أسابيع بعد انتهاء التصوير، سبّبت أحداث "أيلول الأسود" في الأردن (بدءاً من 12 سبتمبر/أيلول 1970) مقتل أغلب المقاومين الثوريين المُصوّرين في مادة فيلمية، تجاوزت مدّتها 44 ساعة، لم يعرف غودار وغوران ما يفعلانه بها، إلى أنْ وضّب الأول، بمعيّة رفيقته الجديدة آن ـ ماري ميلفيل، جزءاً منها في فيلمٍ، أسماه "هنا وهناك" (1976)، قدّما فيه درساً سينمائياً بليغاً عن تفاعل الصُور مع الأصوات، ونظرية مزج الطبقات الصوتية (من أساسيات أسلوب غودار، بحسب جان دوشيه)، وكيفية تلاعب وسائل الإعلام، في مقدّمتها التلفزيون، بالصُور، حاجبةً أكثرها أهمية، خدمةً لمصالح اقتصادية وسياسية معيّنة.
أنجز المخرجان مونتاجاً تراكبياً بين صُور عدّة، بمنظور المقارنة التاريخية، منها صُور الجثث المحروقة في الحرب العالمية الثانية، ومَشاهد حرق جثث الفدائيين الفلسطينيين في الأردن. لكنّ وضع صورة أدولف هتلر إلى جانب صورة لغولدا مائير، رافعةً يدها في ما يشبه حركة التحية النازية، شكّلت اللقطة التي لا تزال تسيل الكثير من المداد. من تعليق الفيلم، هناك جملة ظلّت عالقةً في الأذهان: "اليهود يُذيقون العرب ممّا قاسوه هم أنفسهم من النازيين".
بدأ انشغال جان ـ لوك غودار بـ"المسألة اليهودية" منذ "امرأة متزوّجة" (1964)، حيث تناول محاكمات أوشفيتز من زاوية السخرية القاتمة (على حدود اللائق) من اللاسامية الساذجة، المنتشرة في أوساط البورجوازية الفرنسية حينها، وتتبّع ـ في ما بدا استشرافاً لنسق المونتاج الجدلي، الذي سيقع لاحقاً في قلب تصوّر أفلامه الوثائقية ـ لقطات من شاشة سينما، تعرض "ليلٌ وضباب" (1956)، وثائقي آلان رينيه حول مراكز الإبادة، مع مَشاهد حبّ بين البطلة وعشيقها في غرفة فندق. ثنائية تفصح عن رؤيةٍ، عبّر عنها غودار باكراً في نصوصٍ نقدية تطرّق فيها لأفلامٍ مثل "كابو" (1961) لجيلو بونتيكورفو (عن إبادة اليهود)، و"هيروشيما حبيبتي" (1959) لرينيه (عن القنبلة الذرية)، فحواها أنّ محاولة صوغ أيّ تركيب جمالي لصُورٍ تنتمي إلى مُعجم الإبادة تُحدِث خرماً في الأخلاقيات (مُستشهداً بقول للوك موليه: "لقطة المتابعة مسألة أخلاق")، وابتذالاً يُحيل إلى استتيقا تسليع الجنس السائدة في الإعلانات التلفزيونية آنذاك.
ثمّ جاء مشروعه الضّخم، "تاريخ/تواريخ (قصص) السينما" (1988 و1998)، للإجابة عن مُركّب ذنب، ما فتئ يقضّ مضجع مخرج "ألفافيل" (1965)، مفاده عجز السينما عن تسجيل التاريخ وأحداثه الكبرى، وفي مقدّمتها "المحرقة"، باعتبارها أهمّ حدثٍ تخلّل القرن العشرين، وصاغ أحداث نصفه الثاني، في غياب السينما التي تحوّلت بنظره إلى آلة لخدمة الدعاية الشمولية، والمصالح الإمبريالية، حاملةً في جيناتها ملامح مشروع القتل الكبير، و"الحلّ النهائي"، أو فكرة "الموت داخل العين" (2004)، عنوان المؤلَّف المرجعي لستيفان زَغْدانسكي، الذي غذّى فيما بعد حواراً طويلاً ومُلهماً بين الرجلين.
بصفته مخرج صُورٍ، وجد غودار صعوبةً بالغةً في استيعاب قانون الكلمات، وما فتئ يبحث في جذورها واشتقاقاتها: "الكاثوليكي، أعرف جيداً ما يعنيه: شخصٌ يذهب إلى القداس. لكنّي لا أعرف ماذا يعني "يهودي". لا أفهم". يُسرّ لجان ناربوني، في فيلم آلان فليشر، "قطع محادثات مع جان ـ لوك غودار" (2007).
في "موسيقانا" (2004)، المُصوّر أثناء "الملتقى الأوروبي للكتاب" في سراييفو، أضاف غودار لبنةً مُهمّة لمُنجزه الملتزم قضية فلسطين، حيث يتمثّل نفسه في وضعية المعلّم الذي يفسّر لطلبةٍ مفهوم الحقل والحقل المضاد، عبر صورتين متقابلتين، تظهر إحداهما إسرائيليين مبتهجين ببلوغ "أرض الميعاد"، التي طالما تخيّلوها وحلموا بها، وتقدّم الأخرى فلسطينيين مطرودين من أراضيهم إلى المنفى وراء البحار، مُعلّقاً: "يلتحق اليهود بالمجال الروائي، بينما يصبح الفلسطينيون مادة للوثائقي". توليف غودار، بدل أنْ يؤالف ويُقرّب، يُقسّم ويُباعد، بتعبير جيل دولوز (مُتعاطف آخر مع القضية الفلسطينية)، في كتابه "الصورة ـ الزمن" (1985).
ينتهي "موسيقانا" بعملية تفجيرية في قاعة سينما في إسرائيل، بعدما بدأ بصحافية إسرائيلية شابة في "هآرتس"، تُنجز تحقيقاً، موضوعه "لماذا سراييفو؟ لأنّ هناك فلسطين...". تمكّن غودار من أنْ يُثير سوء فهم، وأن يُبقي عمله عرضةً للتأويلات والتأويلات المضادة، كونه حمّال أوجه، لا يكتفي بترديد المسلّمات، ولا يرضى بالتخندق في الأحكام البسيطة والمانوية. بنظره، السينما تشتغل مثل الميكروسكوب والتلسكوب، حين تُرينا فقط ما لا يُمكن أنْ نراه من دونها.