تحكي الصحافية المصرية الشابة سولافة مجدي، المفرج عنها أخيرًا هي وزوجها الصحافي حسام الصياد، أن ابنها خالد، أثناء لعبة تكوين الكلمات من حروف مكتوبة على مكعبات نرد خشبية، صادف أحرف "ح، ر، أ"، فنطق، "أحرار". وبمجرد سؤالها له عن معنى هذه الكلمة التي نطقها، قال "يعني ناس كانوا محبوسين في سجن وتحرروا مش واحد بس حُر لا أحرار كثير". هذا الطفل الصغير ذو السبع سنوات ونصف، يدرك أنه بخلاف والديه الصحافيين، يوجد غيرهما أناس غير أحرار "محبوسين في السجن" وهم كثر. لا يعلم عددهم، لكنهم "كثر" كما قال.
أفرج عن الصحافيين المصريين حسام الصياد وسولافة مجدي قبل حوالي أسبوعين من "اليوم العالمي لحرية الصحافة" الذي يصادف في الثالث من مايو/ أيار من كل عام. وطوال مدة حبسهما التي امتدت لحوالي 500 يوم، كان خالد حسام الصياد يعيش مع جدته لأمه. لم يكن يعرف أيا منهما. كل ما كان يقال له إنهما مسافران. لكن هذا لم يمنع الطفل الصغير من أن يستشف من محيطه مفردات الحبس والحرية. كان من الصعب على جدته أن تشرح له ملابسات الوضع، وأصبح الآن من الصعب على والديه الشرح أيضًا. لكن هذا الصبي الصغير يدرك الوضع القبيح رغم محاولات تجميله.
خرج حسام الصياد وزوجته سولافة مجدي من السجن من ضمن حوالي ثمانية صحافيين آخرين ألقي القبض عليهم في فترات متفاوتة، لكن بقي غيرهم ما يقرب من 70 صحافيًا وإعلاميًا في السجون، حسب حصر "المرصد العربي لحرية الإعلام"، يقضي بعضهم أحكامًا بالحبس تصل إلى المؤبد، بينما يقضي غالبيتهم في حبس احتياطي على ذمة اتهامات ولم تتم إحالتهم إلى المحاكم، وقد قضى غالبية هؤلاء الفترات القصوى للحبس الاحتياطي التي ينص عليها القانون (سنتين) ولم يتم إخلاء سبيلهم، بل تمت إعادة حبسهم باتهامات جديدة؛ ليصبح الحبس الاحتياطي الذي هو مجرد إجراء احترازي عقوبة سالبة للحرية طويلة المدى من دون حكم قضائي.
كل هؤلاء الصحافيين في السجون في الوقت الذي تنص فيه القوانين المصرية والدستور على حق ممارسة العمل الصحافي أو التعبير السلمي عن آرائهم، بل إن الدستور المصري في المادة 71 يمنع تماماً الحبس في قضايا النشر الصحافي، كما يمنع إغلاق الصحف. ولا يمكن الحديث عن حرية الصحافة من دون ذكر أن السلطات المصرية، حجبت 546 موقعًا على الأقل، بينها 103 مواقع صحافية، وفقًا لآخر حصر "مؤسسة حرية الفكر والتعبير"، على الرغم من أن الدستور المصري أعطى الصحافة بأنواعها المختلفة حرية مطلقة، حيث نص على أنه "يحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زَمن الحرب أو التعبئة العامة". إلا أن القانون رقم 180 لسنة 2018، والمسمى بقانون تنظيم الصحافة واﻹعلام والمجلس اﻷعلى لتنظيم اﻹعلام، وضع قيودًا مكبِّلة لحرية الصحافة، في مخالفةٍ ﻷحكام الدستور.
إلى جانب سياسات الحجب، توسعت السلطات المصرية في هيمنتها على وسائل الإعلام، حيث تمكنت أخيراً من ضم قناة "المحور" (قناة خاصة يملكها رجل الأعمال حسن راتب)، وصحيفة "المصري اليوم" (صحيفة يومية خاصة يملكها رجل الأعمال صلاح دياب)، إلى الإمبراطورية الإعلامية الجديدة المملوكة للمخابرات المصرية تحت غطاء الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية (تضم العديد من القنوات الفضائية والإذاعية والصحف والمواقع الإلكترونية وشركات الإنتاج الفني والسينمائي والإعلاني).
ويرى "المرصد العربي لحرية الإعلام" أن "السلطات المصرية تستهدف من خلال هذه الهيمنة، ضمان نشر وتسويق روايتها الرسمية". الحصار الذي لاحق الصحافيين والصحف والمحطات الفضائية، امتد أيضًا لحصار نقابة الصحافيين المصريين نفسها. فمبنى نقابة الصحافيين المصريين يقع خلف قضبان السقالات منذ ثلاث سنوات، وأمامه عناصر أمنية دائمة التمركز على الرصيف المقابل للنقابة، منذ أن أعلن سكرتير عام مجلس نقابة الصحافيين المصريين محمد شبانة بدء عمليات تطوير المبنى وترميم واجهته، وحتى الآن لا تزال السقالات موضوعة رغم عدم وجود تطوير ولا عمال ولا حتى دراسة جدوى أو خطة زمنية لإنهاء التطوير.
حصار المبنى نفسه كان مجرد موقف رمزي لحصار الصحافة المصرية بشكل عام، لكن الدولة أصرت على تحويل الموقف الرمزي لموقف فعلي بحصار أعضاء مجلس النقابة المحسوبين على تيار الاستقلال، بتهميشهم تمامًا وحرمانهم من تولي الإشراف على أي من لجان النقابة. ففي واقعة جديدة على نقابة الصحافيين المصريين، استبعد 4 أعضاء من مجلس النقابة، محسوبين على المعارضة، من تشكيل هيئة مكتب مجلس النقابة ولجانه المختلفة، وهم هشام يونس، ومحمود كامل، ومحمد سعد عبد الحفيظ، ومحمد خراجة، ووزعت اللجان كلها على باقي أعضاء المجلس، على أن يتولى كل منهم إدارة لجنتين.
أوضاع امتدت على مدار سنوات، مكنت مصر من الحفاظ على مرتبتها المتأخرة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، حسب تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" لعام 2021، حيث حافظت مصر على تراجعها في المركز 166 الذي يقيم الوضع الإعلامي في 180 بلدًا، انطلاقا من منهجية تُقيم مدى تعددية وسائل الإعلام واستقلاليتها وبيئة عمل الصحافيين ومستويات الرقابة الذاتية، فضلا عما يحيط بعملية إنتاج الأخبار من آليات داعمة، مثل الإطار القانوني ومستوى الشفافية وجودة البنية التحتية.
خلال شهر إبريل/نيسان الماضي وحده وثّق "المرصد العربي لحرية الإعلام" 20 انتهاكاً بحق الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام، وتوزعت كالتالي: انتهاكات المحاكم والنيابات (8)، وانتهاكات المنع من التغطية (3)، والحبس والاحتجاز المؤقت (3)، والقرارات الإدارية التعسفية (3)، وانتهاكات السجون (2)، والتدابير الاحترازية (1).
"مراسلون بلا حدود" أشارت أيضًا إلى أن أكثر دول الشرق الأوسط "استبدادا"، السعودية ومصر وسورية، كثفت ممارساتها القمعية المتمثلة في "تكميم الصحافة، لتحكم قبضتها على وسائل الإعلام في سياق جائحة "كوفيد-19"، حيث جاءت الأزمة الصحية لتعمق جراح الصحافة العميقة أصلاً في هذه المنطقة"، التي لا تزال الأصعب والأخطر في العالم بالنسبة للصحافيين.