استمع إلى الملخص
- يعبر الفيلم عن مشاعر فريج الذي يرغب في دراسة طب الأسنان، ويعكس حيرته بين العيش بسلام والاستعداد للقتال، متسائلاً عن الموت والمستقبل والانتماء في واقع يفرضه التاريخ.
- تبرز براعة هيرابديان في تصوير التناقض بين جمال الطبيعة وقسوة الحياة، مع تسلسل تاريخي للأحداث لفهم الحاضر، مما يجعل الفيلم شهادة سينمائية توثق الحكاية ببساطة.
يتداخل السياسي ـ الوطني ـ التاريخي بالألم الفردي في فيلمٍ يُفترض به أنْ يروي حكاية مُراهقٍ، فإذا به يروي حكاية بلد وناس، وحروبٍ وضحايا، وتاريخٍ مُصاب بمأزق الجغرافيا. فسارين هيرابديان تختار، في وثائقيّها الطويل الأول "حلوة يا أرضي" (2024، 86 دقيقة)، فْريج (11 عاماً)، لتُصوّر زمناً وأمكنة وانفعالات وتساؤلات، وعيشاً يومياً على حافة خرابٍ تُنتجه حربٌ تلو أخرى. بلدته (مارتكِرت) موجودة في بلدٍ (أرتساخ، أي ناغورنو كاراباخ) متاخمٍ لأذربيجان، والتاريخ، أقلّه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي (26 ديسمبر/ كانون الأول 1991)، ثقيل الوطأة على دول تستقلّ حديثاً، رغم تاريخ طويل لها، وهذا يوقظ شهوات في دول متاخمة لها، يتمثّل أحدها (الشهوات) بالاستيلاء عليها.
السياسة/ الحرب والوطن/ التاريخ والحدود/ الجغرافيا في صلب وثائقيّ يتكوّن نصّه من هذا كلّه، بسرده حكاية مُراهقٍ يكشف، تدريجياً، أحوال اجتماع وسلوك بيئة، ويُعرّي تربيةً تفرضها الجغرافيا ويُحصّنها التاريخ: معسكر للمراهقين والمراهقات يُدرّبهم على الحياة العسكرية، فالحروب المتكرّرة تصنع حياة غير مدنية، غالباً. الوالد جندي في جيش أرتساخ، والمراهق يعيش الحرب وتأثيراتها، ومنها هجرةٌ قسرية لأشهرٍ، ويعاين قسوة الجغرافيا رغم جمال الطبيعة، وتجوّله فيها (الطبيعة) حَذِرٌ، فـ"الجار" قريبٌ، و"أهل البيت" يوقّعون معه اتفاقياتٍ تُثير غضباً وألماً إضافياً.
يتساءل فْريج، في نزهة له بعد درسٍ في التاريخ مليء بخطابٍ وطني ووقائع حاصلة: "كيف تستطيع أنْ تعيش مع جارٍ يريد الاستيلاء على بلدك؟". هذا بعد قولٍ لجدّته في حربٍ سابقة (2016): "أينما نهرب، لن نتمكّن من العثور على مكاننا أبداً". كلامٌ كثير في السردية نفسها يُقال على ألسنة نساء (العائلة، المدرسة، إلخ.) غالباً، وفي بعضه قسوة وقهرٍ، فالحرب تعني موتاً ودماراً وانسلاخاً من أرضٍ وحياة، وأفرادٌ في العائلة نفسها جنودٌ يُقتلون في حروب ماضية.
يرغب المراهق الجميل في دراسة طبّ الأسنان ليُعالِج أهل بلدته. هناك حزنٌ في عينيه اللتين تشعّان غالباً ببراءة محمّلة بقهرٍ، ما يدفعه إلى التساؤل عن الموت والمستقبل والانتماء: "الوطنُ المكان الأهمّ الذي أريد أنْ أعيش فيه هذه الحياة. ربما عندما أكبر، ستعود الأراضي المفقودة إلينا. إذا كانت هناك حاجة، سأقاتل أيضاً. ماذا أفعل غير ذلك؟ لستُ مجنوناً بالقتال. لكنْ، إذا كان عليّ فعل ذلك، فسأقاتل". هذه خلاصة تفكير مراهق، تبرق عيناه في نظراتٍ إلى المدى الأوسع، أو داخل صفٍ، أو في استماع إلى ما يقوله كبار في العائلة والمدرسة والمعسكر. يعيش يومياتٍ غير متوافقة وعمرٍ حسّاسٍ كعمره (بعد فترة التدريب في المعسكر، يبلغ فْريج 13 عاماً). هذا واقع تفرضه الجغرافيا، ويحرّض التاريخ عليه ("تيغران العظيم"، أحد أبطال التاريخ الأرميني القديم).
كلامٌ عن الحرب والبلد، وعن يوميات أفراد العائلة (عيد ميلاد الجدّة، ألعاب الأطفال والمراهقين، تحضير الطعام، إلخ)، لن يحول دون تنبّه إلى اشتغال سارين هيرابديان (كتابة وإخراجاً وإنتاجاً وتصويراً). ففي متابعتها سيرة فْريج، تصنع هيرابديان كادرات عدّة تُلخِّص واقعاً تُطعّمه بتاريخ وراهن. جمال الطبيعة يتناقض وقسوة حياةٍ على تخوم الموت. لقطات مُقرّبة لفْريج تبدو كأنّها تبحث في ذاته عن مشاعر تقوده في بيئةٍ مُعرّضة لآلامٍ وتبدّلات. أفراد العائلة يظهرون مراراً، بلقطات مختلفة (مُقرّبة أحياناً)، والمدى الواسع للجغرافيا يغلب عليه شيءٌ من الرماديّ. التوليف (رفاييل مارتن ـ هولغر وهيرابديان) سلس، لتسهيل التواصل مع نصّ وأشخاص وحكايات وحالات، رغم قسوة وخيبات، ومحاولات دؤوبة لخلاصٍ مُرتجى.
اختيار تسلسل تاريخي للأحداث، الفردية والجماعية، موظَّف بهدوءٍ يُعين على فهم الحاصل راهناً. البداية معقودة على لقطات فيديو لعرسٍ جماعي، ولخطبة كاهنٍ تستعيد ماضياً، ولقطات سريعة لحرب 1992. تسبق هذا جُملٌ تروي الحكاية، وتُحدّد معالم ستنكشف لاحقاً عن سبب افتتاحها "حلوة يا أرضي". فهذه الأرض محاطة بجبال، وتقع بين أرمينيا وأذربيجان، ومأهولة منذ سنين طويلة بالأرمن. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، يُعلن أرمن أرتساخ الاستقلال، الذي لن يعترف به العالم: "سيؤدّي هذا إلى استمرار الحروب مع أذربيجان، التي تسعى إلى السيطرة على هذا الجيب".
حروبٌ عدّة: 1992، 2016، 2020 (أكثر من فترة)، 2021. ثم 2023: تشنّ أذربيجان هجوماً عسكرياً في 19 سبتمبر/ أيلول، يُجبر أكثر من مائة ألف أرميني على ترك بلدهم، بينهم فْريج وعائلته، ما يؤدّي إلى حرمان أهل الأرض منها (جينيريك النهاية). كثرة التواريخ/ الحروب (يُمكن اعتبارها مفاصل في سيرة المُراهق وعائلته/ بلده أيضاً) غير ثقيلة، بل تُشير إلى وقائع تؤثّر في الشخصية الأساسية للوثائقي، ولمحيطين ومحيطات بها. لكنّ مشاهد عدّة، لفْريج تحديداً، زائدةٌ عن الحاجة، البصرية والدرامية والفنية، خاصة أنّها متشابهةٌ في تصوير حالةٍ أو انفعالٍ أو منظر طبيعي (قبل المعسكر وبعده بقليل، مثلاً).
"حلوة يا أرضي" شهادة سينمائية توثّق حكايةً ببساطة وسلاسة.