رغم أنّ أفلاماً مغربية طويلة أُنجزت قبله، يتّفق أغلب النقّاد والباحثين على أنّ "وشمة" (1970)، لحميد بناني (80 عاماً)، واضعُ حجر أساس السينما المغربية، كتعبيرٍ عن سينما ناضجة وواعية بأدواتها الفنية، والرهانات الجمالية، والإشكالات التي لم تكفّ عن طرقها منذئذ، بحساسيات مختلفة في عشرات الأعمال، وأوّلها رهان التأرجح بين التقليد والحداثة، واضطراب الهوية الناجم عنه، كما نلمسه في مسار مسعود التراجيدي، بين طفولة تشرّب فيها مرارة الانسحاق أمام أب بالتبنّي، مُمعنٍ في التقليد والصرامة، قبل أن يجترّ انعكاسات ذلك في التسكّع رفقة أقرانه بين دروب اللّهو المباح (المشهد الأيقوني لرمي حفر السّور بثمرات البرتقال)، والبحث عن الملذّات العابرة، والتمرّد على طبائع المجتمع.
يحمل مسعود في أعماقه بذور اغتراب متأصّل (مثير للاهتمام استشهاد المخرج بـ"القدّيس جينيه، المسرحيّ والشهيد"، حيث يصف جان ـ بول سارتر "يوميات لصّ" لجان جينيه بـ"كوسموغونيا"، أو نظرية تأصيل نشأة عالمٍ ما) منذ نعومة أظافرة، لا ينفكّ يؤرِّق وجوده عبر استيهامات (المرأة ـ البومة) وشخصيات ـ صُور (مالك الأغنام فاقد الرّجلين)، ينجح المخرج في استتباب غرائبيّتها من قلب الواقع، صانعاً فيلماً كبيراً بأجوائه المتفرّدة ودلالاته العميقة، يجمع بشكل مانع بين توجّهين سيطبعان السينما المغربية: أفلام المؤلّف ذات الطابع التعبيري والرمزي (الجزء الأول، أو مسار الطفل) وسينما الدراما الاجتماعية الواقعية، الممزوجة بلمسة شاعرية أو حالمة (الجزء الثاني، أو مسار الشاب).
بمناسبة مرور 50 عاماً على "وشمة"، حوارٌ مع حميد بناني، الذي تُكرّمه "أيام قرطاج السينمائية"، في دورتها الـ31 (18 ـ 30 ديسمبر/ كانون الأول 2020)، احتفاء بمنحه "التانيت البرونزي" في دورتها الـ3 (11 ـ 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1970).
(*) كيف ولدت فكرة "وشمة"؟
كما تعلم، العمل الفني مسألة معقّدة للغاية، ترتكز على خلفية ثقافية، وقراءات وذكريات طفولة. إنّه مزيج مؤثّرات مختلفة. ثم هناك معجزة الصّفحة البيضاء، حين تجتاحنا الإرادة في تسويدها برغبتنا الدّفينة في خلق مواقف مثيرة للاهتمام، ونفخ الروح في شخصياتٍ من وحي الخيال.
(*) أحبُّ كثيراً، في المشهد الأول، ذلك التناقض بين الخطاب الحتمي، المتأثّر بالماركسية، للمدرّس، وأقوال الأب المفعمة بالدوغمائية الدينية بشأن منافع التربية الصارمة. هل هذا نوع الأفكار التي كانتْ تسكنك عندئذ؟
بالتأكيد، لأنّنا نعيش في مجتمع تقليدي جداً. بحكم ثقافتي وقراءاتي، كنتُ فعلياً من أتباع المذهب الماركسي، لكنّي فُتنْتُ بالفلسفة الوجودية خاصّة. كنت قارئاً نهماً لجان ـ بول سارتر، وتأثّرت كثيراً بأفكاره. تحفته "القدّيس جينيه، المسرحي والشهيد" ألهمتني بشدّة.
(*) هناك أيضاً جانب رمزي مثير للانتباه في مشهد الطفل عندما يسرق الفاكهة، ما أثار غضب الأب، الذي يتّخذ فجأة الخطوط العريضة لشخصية ذات وصاية متعالية، تكاد تلامس القدسيّة.
بما أنّ الأمر يتعلّق بطفلٍ مُتَبنّى (في الجزء الثاني من الفيلم، يكشف مسعود لمالك الأغنام أنّه وُجِد رضيعاً على حافة نهر)، فإنّه كالأطفال المتبنّين جميعاً يشعر بأنّه أسير كرم والديه الجديدين. لا شيء في ملكيّته إلا ما أُعطي له. لذا، فإنّ سرقاته الصغيرة، التي يستهلكها في الخفاء، تعبيرٌ عن نوع من الطقوس. طريقة لاستعادة طعم الأشياء، بالذهاب بسلوكاته ضدّ أخلاقيات المجتمع. طبعاً، في هذا تجلٍّ لأفكارٍ نهلتها من قراءتي جان ـ بول سارتر، كما أسلفت.
(*) الديكور مهمّ جداً في الفيلم.
بالتأكيد. إنّه شخصية قائمة بحدّ ذاتها.
(*) هل تخيّلت الفيلم بشكل طبيعي في محيط مكناس، لأنّها مسقط رأسك، أم قرّرت موقعته هناك بعد إجراء استكشافٍ لأمكنة مختلفة؟
مكناس مسقط رأسي فعلياً. لكنْ، لي أقارب عبر الزواج في قرى "زرهون": عمّة متزوّجة تعيش في مولاي إدريس، وأخ تزوّج ابنة قائد قرية صغيرة تسمى المغاصيين. عمتي تحتفل بموسم "حمادشة" في منزلها كلّ عام. كنتُ متشبّعاً للغاية بهذه الموسيقى، حسّياً وإيقاعياً. إلى جانب المغاصيين، هناك قرية سيدي علي، منبع ثقافة "حمادشة". موسم "حمادشة" يعقد في أجواء خاصّة. كنتُ أحرص على حضوره كلّ عام تقريباً. لذا، خبرت جيّداً المنطقة وطبيعتها وكهوفها التي اكتشفتُها منذ طفولتي ومراهقتي. لهذا السبب، خطرت لي فكرة تصوير فيلمي هناك فوراً.
(*) هناك أيضاً ذلك المشهد الليلي المُدهش والمحفوف بمجازفة فنية كبيرة، الذي يكتنف بُعداً شبه شيطانيّ: يمضي الطفل مسعود اللّيلة في الخارج، بينما يبحث الجميع عنه. مشهد محوري، برأيي، لأنّه بمثابة "ليلة قدرٍ"، حيث يتشكّل مستقبل الشخصية كشخصٍ بالغ.
هذا مشهد الانفصال عن الأب، خاصة أنّ الطفل يتعرّض للكيّ بالنار عقاباً له على هروبه وسرقاته، ما يُشكّل قطيعة نهائية وشاملة مع الأب. إلى ذلك، يجسّد هذا فعل تدنيسٍ، لأنّ "الله وحده يعذّب بالنار" في التقليد الإسلامي. لكنْ، قبل معاقبة الطفل، ينخرط الأب بالتبنّي في طقسٍ، حيث ينغمس في نوعٍ من الرقص مُقيّداً بالسلاسل في مياه الحوض، كنايةً عن تطهير العنف المقبل، حتّى يخلو عقابه للطفل من كلّ حقدٍ شخصي. هذا يدلّ، بطريقةٍ ما، على تبنّيه لفكرةِ العقاب الإلهي.
(*) ما هي ذكرياتك عن تصوير هذا المشهد مع عبد الرحمن التازي وراء الكاميرا؟ وعن تصوير الفيلم عامة؟
عموماً، لديّ ذكريات جيّدة جداً عن التصوير. سهّلَتْ بلدية مكناس مهمّتنا كثيراً، باستضافتها إيانا في أكواخٍ خشبية تابعة لوزارة الشباب والرياضة. في قرى زرهون، أكرمنا السكّان بإيوائنا في بيوتهم، وتكلّف أحد أعضاء الفريق، المرحوم العربي اليعقوبي، بمهمّة الطبخ. لذلك، فإن "وشمة" يُعتبر أرخص فيلم في التاريخ، بحسب نور الدين الصايل (يضحك). وجدتُ في عبد الرحمن التازي مديرَ تصويرٍ و"كاميرامان" ممتازاً. نفّذ ببراعة اللقطات والإطارات التي أردْتُها.
(*) يعكس الفيلم روح العمل الجماعي، بمساهمة مواهب أخرى عدّة: محمد تيمود في الحوارات وأحمد البوعناني في المونتاج. هذه روح لم نعد نراها إلّا نادراً في زمننا الحالي.
سأخبرك شيئاً. السينما عمل فريق، لكنْ هناك مسؤول فنّي. المخرج قائد الفرقة والمؤلّف في آنٍ، وإذا لزم الأمر، يُمكن لكلّ عضو في الفريق المُساهمة بشيءٍ في بناء العمل. في الأحوال كلّها، يبقى المخرجُ مديرَ العمل، خاصّة عندما يكون، كما في حالة "وشمة"، هو نفسه كاتب السيناريو. في مرحلة التوليف، هناك أعمالٌ تقنية كثيرة تُنجز بعد الإنتاج، لكنْ هناك مونتاج أوّلي تمّ إجراؤه منذ التصوير، وفقاً لمُخطّط تقطيع تخيّلته في رأسي. تُحسَب الاحتمالات كلّها مُسبقاً، والمونتاج ليس، نوعاً ما، سوى تنفيذ ما خُطِّط له منذ التصوير.
(*) كيف تمّت مرحلة ما بعد الإنتاج؟ هل كان لديك ما يكفي من الإمكانات لإتمامها من دون صعوبات؟
آنذاك، كان الراحل عمر غنام مديراً لـ"المركز السينمائي المغربي". ساعدني كثيراً بمنحي كلّ شيء مجّاناً: غرفة المونتاج والمختبر وقاعة الصّوتيات. هناك أيضاً مهندس الصوت، الألماني هانز كلين، ومدير قاعة الصّوتيات بعين الشقّ، التابعة للمركز. ساعدني كثيراً في مزج المؤثّرات الصوتية وأشغال ما بعد الإنتاج. ينبغي القول إنّي كنتُ محظوظاً للغاية أثناء إنجاز الفيلم.
(*) ماذا عن الموسيقى الرائعة، التي تعبر الفيلم وتتسامى بعزلة الشخصية الرئيسية واغترابها. كيف تمّ تسجيلها؟
دومينيك هيلبوا صديقٌ لي يعلّم الموسيقى في وجدة. أعجب كثيراً بالفيلم، ووافق على تأليف الموسيقى من دون مقابل. ارتجل كلّ شيء في الاستديو بآلة الـ"تشيلو"، وهي آلة أحبّها كثيراً.
(*) كيف كان استقبال الفيلم؟ هل كان عرض "أيام قرطاج السينمائية" الأول دولياً
عُرض دولياً للمرّة الأولى في الـ"أيام"، ثم تلته عروضٌ أخرى في أوروبا. برمجته "السينماتيك الفرنسية" في عرضٍ أوّل، حصلتُ بعده مباشرةً على "جائزة جورج سادول". قدّم الفيلم هنري لانغلوا، المدير الأسطوريّ للسينماتيك، بحضور السيدة سادول، التي قدّمت لي الجائزة بنفسها. بعد ذلك، شارك الفيلم في مهرجان "كانّ" (أسبوعا المخرجين)، وحصل على جوائز وتنويهات في دمشق ومانهايم (ألمانيا) وهيير (فرنسا). قُدِّم برسم "سنة فرنسا في المغرب"، من قِبل فريديريك ميتران، ولا يزال يُعرض بانتظامٍ في دور "سينماتيك" عدّة، في برلين ولندن ولوزان وغيرها، احتفاءً بالسينما المغربية.
(*) كيف تم تلقّي الفيلم عند عرضه هنا في المغرب؟ هل تمّ تبنّيه فوراً من النقاد، أم أنّه لم يكتسب هالة الفيلم ـ النّسك إلّا بمرور الوقت؟
كما تعلم، في تلك الفترة، شركات عالمية تحتكر استغلال الأفلام في المغرب، وتفضِّل الأفلام الأميركية والفرنسية، بينما الأفلام المغربية تُحارَب بشدّة. لذلك، لم يصمد "وشمة" في القاعات إلّا لوقتٍ قصير جدّاً. إلى ذلك، الفيلم حينها منتوجٌ جديد وغريب نوعاً ما بالنسبة إلى الجمهور المعتاد على السينما التجارية. باختصار، لم يكن هناك شيء يُسمّى توزيع الفيلم المغربي في تلك الفترة. من ناحية أخرى، نشأ اهتمام الصحافيين المغاربة بالفيلم بمجرّد بدء فوزه بجوائز في الخارج.
(*) حصل "وشمة" على التانيت البرونزي في "أيام قرطاج السينمائية" عام 1970. وسيتمّ تكريمك هذا العام بمناسبة الذكرى الـ50 للفيلم. ماذا يعني لك ذلك؟
إنّه حدثٌ بحمولةٍ رمزية كبيرة. هذا من دواعي سروري البالغ طبعاً. للأسف، هناك أزمة "كوفيد 19"، التي تُصعِّب جداً السفر إلى الخارج، إذْ عليك اجتياز اختبارات، وربّما الخضوع لعزلٍ أياماً عدّة، ممّا يُعقِّد المشاركة والحضور.
(*) سؤال شغلني دائماً: لماذا انتظرتَ 20 عاماً لتصنع فيلمك الطويل الثاني، بينما لاقى الفيلم الأول كلّ هذا النجاح في الخارج، ومعظم المهنيين يعتبرونه الفيلم الذي وضع أسس السينما المغربية، كتعبيرٍ عن سينما مؤلّف قوية وناضجة؟
كما يُقال، هناك شيئان يتسبّبان في سقوط المرء: الفشل أولاً. لكنْ أيضاً النجاح الكبير غير المُتوقَّع. عندها، لم أكنْ أفكّر بشيءٍ آخر. فقدْتُ صوابي نوعاً ما، بسبب نجاح الفيلم. ظللتُ أستمتع بفوزي بشكل مستمرّ. ليس أنّي تناسيتُ السينما، لكنّي فضّلت فرحة التكريس على ألم الإبداع. في الـ20 عاماً، حقّقتُ أفلاماً تلفزيونية، قبل هجرتي التلفزيون، والشروع في تحقيق أفلام وثائقية لحساب وزارات ومؤسّسات عمومية.