كمال شابٌ عشرينيّ، يقوم برحلةٍ عسيرة لبلوغ أوروبا سيراً على قدميه. يعبر الحدود بين تركيا وبلغاريا، فتقبض شرطة الحدود البلغارية عليه، لكنّه يتمكّن سريعاً من الهرب، ويدخل غابة، تكون طريق خلاصه، إذ يكافح فيها بقوّة من أجل الحياة والحرية، في عالمٍ (الغابة) خالٍ من القوانين.
هذا مُلخّص "أوروبا" (2021، 72 دقيقة)، الفيلم الجديد لحيدر رشيد، المخرج الإيطالي ذي الأصل العراقي، الذي اختارته إدارة برنامج "نصف شهر المخرجين" في مسابقتها في الدورة الـ53 (7 ـ 17 يوليو/ تموز 2021)، المُقامة في الدورة الـ74 لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، المُقامة في الفترة نفسها.
حيدر رشيد مولودٌ في فلورنسا، عام 1985، من أبٍ عراقي وأمٍ إيطالية. أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول "المحنة" عام 2010، بالإضافة إلى عددٍ من الأفلام القصيرة والطويلة، منها: "صمتاً، كلّ الطرق تؤدّي إلى الموسيقى"، و"مطرٌ وشِيكْ" (2013). له أيضاً فيلمٌ مُنجزٌ بتقنيات الواقع الافتراضي، بعنوان "لا حدود"، نال بفضله جوائز مختلفة في مهرجاناتٍ سينمائية دولية. إلى إخراجه "أوروبا"، شارك سونيا جيانّيتّو في كتابته وتوليفه. تمثيل الشاب آدم علي وممثلين محترفين.
في هذه المناسبة، التقته "العربي الجديد":
(*) هل يعزف فيلمك الجديد "أوروبا" على الوتر نفسه لأفلامك السابقة، حيث المعاناة والمشاكل التي يعانيها أبناء الجيل الثاني من المنفيين العراقيين؟
ـ لا، ليس الأمر هكذا. الموضوع مُختلف، لأنّ الشخصية التي يروي الفيلم حكايتها ليست من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين، بل شاباً يبحث عن حياةٍ جديدة في مكانٍ آخر. لذا، موضوعُ الهوية والانتماء مركزيان بالنسبة إليه، ويبرزان بوضوحٍ في الأيام القليلة التي تُروى فيها الحكاية. الفيلم مُختلف عن أفلامي السابقة، لكنّه، رغم هذا، يتّبع مساراً مُشتركاً، يرتبط بأعمالي السابقة. إنّه، على أيّ حال، أكثر ارتباطاً بفيلمي القصير "لا حدود"، أكثر من ارتباطه بـ"مطرٌ وشِيكْ".
(*) كما في أفلامك السابقة، استعنت هذه المرّة أيضاً بممثلين أجانب، رغم أنّ الموضوع عراقيّ، والشخصية عراقية.
ـ الممثلون يتكيّفون ويتأقلمون مع ما يؤدّونه، فيكون التماهي أكبر وأعمق، إذا كانت أدوات الممثل مكتملةً. بالنسبة إلى "أوروبا"، مُهمٌّ لي أنْ يكون الممثل من أصل عربي، وأنْ يستوعب مغزى الفيلم ومضمونه من وجهة نظر عاطفية، وأيضاً من وجهة نظر الانتماء والهوية. لم يكن ضروريّاً مطلقاً أنْ يكون عراقياً، فالجذور العربية للممثل آدم علي ساهمت في توضيح الأمور لديه. علي ليبيٌ، ولد في ليبيا وسافر منها، في سنٍّ باكرة، إلى إنكلترا، رفقة عائلته. تمكّن من استيعاب المستوى العاطفي لمعنى مغادرة البيت ومسقط الرأس، والرحيل إلى مكان جديد. ربما أَشْعَرهُ هذا بالخوف نفسه الذي شعرَ به كمال، الشخصية الرئيسية في "أوروبا".
(*) ماذا يروي الفيلم؟
ـ يروي قصّة شاب عراقي، يحاول دخول أوروبا سيراً على قدميه، عبر الحدود بين تركيا وبلغاريا. توقفهُ شرطة الحدود البلغارية، ويتعرّض لضربٍ مُبرح، ويُسرَقُ منه كلّ ما يحمله معه. يتمكّن من الفرار، فيجد نفسه تائهاً في غابة موحشة، على الحدود نفسها. هناك، يخوض رحلةً عسيرة للبقاء على قيد الحياة، محفوفة بالمخاطر، بسبب المطاردة المتواصلة له من أطرافٍ مختلفة، كـ"صائدي المهاجرين"، وهم مُسلّحون غير حكوميّين، ومواطنون لديهم أهداف سياسيّة مناهضة للأجانب.
للفيلم بنية روائية تجعله فيلم إثارة وغموض بوليسي، إلاّ أنّه يُركّز على الشخصية، وعلى الصعوبات والمخاطر التي تواجهها. واضحٌ أنّ كمال مُحاطٌ بأخطارٍ كثيرة، كأشخاصٍ كثيرين يعبرون الحدود في هذه الرحلة، على طريق البلقان.
(*) حدّثنا عن تمويل الفيلم وإنتاجه.
ـ في البدء، أردتُ صنع فيلم بمالٍ قليل. هكذا، بكلّ بساطة: عملٌ يُنجَز بالتعاون بين أصدقاء عديدين. انتبهتُ لاحقاً إلى أنّ من المنطقي أنْ أحاول جعله أكثر تنظيماً. "لجنة توسكاني للأفلام" أول من اقتنع بالمشروع، فمنحتني جزءاً من الميزانية. استوعبَتْ قيمته رغم اطّلاعها على مُعالجة أوليّة فقط. النص جزءٌ واحدٌ وبسيطٌ من المشروع، بينما الأهمّ كامن في ما سيُنجِز في موقع التصوير. فيما بعد، حصلتُ على دعمٍ من وزارة الثقافة الإيطالية، ما منح المشروع علامةً رائعة.
باختصار، تمكّني من صوغ مشروع إنتاجي، يضمّ إيطاليا والعراق والكويت، خطوة مهمّة، أكثر انسجاماً مع مشروع كهذا. إنّه فيلم إيطالي عراقي كويتي، لكنْ من دون أنْ يعني ذلك بأنّ هوّيته منغلقة في هذه الحدود. غياب الحوار ساعد على منحه هويّة عالمية، إذْ يُمكنه حينها أنْ يكون فيلماً ألمانياً أو بوسنياً أو إسبانياً أو لبنانياً. إنّه، حقاً، فيلمٌ غير مُحدّد بأيّ خطابٍ إقليمي أو أوروبي، لأنّ ما يرويه حدثَ ويحدث على الحدود، في مناطق كثيرة من العالم بأسره.
(*) لكنْ، هل يُمكن تفسير اختياره في مسابقة "نصف شهر المخرجين" في مهرجان "كانّ 2021" مؤشّراً على كونه يُخاطب الجمهور الأوروبي بعقلية أوروبية؟
ـ أعتقدُ أنّ "أوروبا" يخاطب أيّ جمهور، ومن ضمن ذلك الجمهور الأوروبي. إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّه فيلمٌ صنعه عربي للجمهور الأوروبي. "أوروبا" صُنع ليروي هذه الحكاية: حكاية الشاب كمال، الباحث عن حياةٍ أفضل في مكانٍ آخر. استشعرت هذا عندما كنتُ في القاهرة، حيث عرضتُ جزءاً منه في "ملتقى القاهرة السينمائي" في دورة عام 2019. فاز المشروع بجائزة OSN TV. كان يجلس إلى جواري مخرجٌ عربي، قال لي: "أنتَ تروي بفيلمك حكايتنا. نحن، جميعاً، نرغب في الهروب من بلادنا".
(*) ما الذي تتوقّعه للفيلم في "كانّ" والمهرجانات الأخرى اللاحقة عليه؟
ـ لا بدّ أنّك تُدرِك مقدار سروري وافتخاري بأنْ يتمّ اختيار عملي هذا في مُسابقة أنشِئَتْ على أساس إبداع مؤلّفي السينما. هذه شهادة أعتزّ بها، بالتأكيد، وتُشكِّل انعطافة مهمّة في حياتي العمليّة. بإمكانك أيضاً أنْ تُدرك مقدار سروري في أنْ أحمل إلى مهرجان "كانّ" علَمَيْ إيطاليا والعراق، وأيضاً راية أول إنتاج عراقي كويتي مشترك مع إيطاليا، مع الإشارة إلى المُساهمة الجميلة "الصندوق العربي للثقافة والفنون ـ آفاق".
لا حدّ لسروري عندما أفكّر بأنّي سأحمل اسمي مقاطعة "توسكانا" ومسقط رأسي "فلورنسا" إلى هذا المحفل السينمائي العالمي. كلّ ما سيأتي لاحقاً سيكون قيمةً مُضافة.