- تكريمه في "مهرجان مالمو للسينما العربية" 2024 وإصدار روايته "الكبرياء الصيني" يعكسان قدرته على التجديد والتأثير في مجالات فنية متعددة، مع التركيز على البنى النفسية والاجتماعية.
- من خلال منشور على فيسبوك، يعبر بشارة عن مشاعره تجاه مهنته والتحولات في مصر، مستعرضاً تجربته الشخصية وعلاقته بالقاهرة، ومؤكداً على أهمية الذاكرة والهوية الثقافية في عمله.
أنْ يُكرَّم خيري بشارة مراراً، في فترات غير متباعدة كثيراً، يعني أنّ حضورَ السينمائي المصري في المشهد العربي فاعلٌ، رغم قلّة اشتغالاته السينمائية، وغير السينمائية، في الأعوام القليلة الفائتة. فخيري بشارة (30 يونيو/حزيران 1947) مؤثّر في مسار السينما المصرية أولاً، وتأثيرات نتاجاتٍ عدّة له ماثلةٌ في السينما العربية أيضاً، بفضل أفلامٍ له، كـ"العوّامة رقم 70" (1982) و"الطوق والإسورة" (1986) و"يوم مرّ يوم حلو" (1988)، من دون تناسي تنويعات أخرى، تعاين وقائع وحالات وانفعالات، بلغةٍ تصبو إلى كشف مستور في ذاتٍ فردية أساساً، كما في بيئة اجتماعية ومكانية، كـ"حرب الفراولة" (1993) و"إشارة مرور" (1994).
تعداد أفلامه، وبينها وثائقيّات، غير نافع في مقالة، تبغي تحيةً لمخرج ـ له رواية أولى بعنوان "الكبرياء الصيني" ("دار الشروق"، القاهرة، الطبعة الأولى، 2023) ـ بمناسبة تكريمه في الدورة 14 (22 ـ 28 إبريل/نيسان 2024) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية"، بعد إهداء الدورة 13 (9 ـ 15 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية" إليه.
تحيةٌ متنبّهة إلى سماتٍ تشترك أفلامٌ عدّة له بها: انغماسٌ في بنى نفسية وروحية واجتماعية لفردٍ ولجماعة، ولعلاقاتٍ بينهما؛ دفعُ فردٍ إلى بوحٍ منبثق من انفعالٍ، متأتٍّ غالباً من انكسار وقهر وشقاء، من دون فقدان رغبة عيشٍ، ومعاينة تحدّيات؛ إيجاد معنى للصورة في مقاربة تشقّقات حاصلة في نَفْسِ فردٍ وروحه واجتماعه، بجعل الصورة مرآة، حادّة (غالباً) في تعريتها، لكنْ من دون تناسي البُعد السينمائي الأساسي في كيفية التعرية، وقاسية في فضحها مخبّأ (أو أكثر) في لا وعي أحياناً، من دون أدنى تلميح إلى إدانة أو حُكم، لانشغالٍ أعمق وأهمّ وأجمل بتفاصيل تصنع الفرد وبنيانه، وتروي شيئاً من علاقاته (المرتبكة إجمالاً) بمحيطٍ، إنْ يكن المحيطُ فرداً أو جماعة، وإنْ تكن العلاقة حبّاً أو صداقةً أو أهلاً، أو ارتباطاتٍ أخرى.
في نصٍّ، له وعنه، منشور في صفحته الفيسبوكية في 19 يناير/كانون الثاني 2024، يبوح خيري بشارة بمسائل ومشاعر مرتبطة بسيرته ومهنته ومدينته وبلده. في النصّ (المكتوب بمزيج أدبٍ واعتراف، وبسلاسةٍ وعمق، وبرغبةٍ في قول ترتبط بإرادة في تأكيدٍ أو تنبيهٍ) ألمٌ، بقدر ما فيه من طاقةٍ على تحصين كلّ جميل ومفيد في حياته من أي نسيان أو تغييب. نصّ يختزل سيرةً، لكنّه يكشف تفكيراً نابعاً من اختبار ومواجهة، وفيه اشتياق إلى بلدٍ وحياة، دافعه (الاشتياق) قلقٌ إزاء راهنٍ مخيف.
هذا منبثقٌ من قراءة شخصية للنصّ، لا من تفسيرٍ له أو إسقاطات. تماماً كقراءة أول رواية ("العربي الجديد"، 10 إبريل/نيسان 2023) يكتبها إمّا بشغف من يحنّ إلى المفقود في الراهن، وإمّا بقلق المرتبك أمام راهنٍ يُراد له تغييب جمال وحيوية وغليان في زمن سابق. قولٌ كهذا غير حائل دون عيش راهنٍ، وإنْ باختلافٍ عن عيش حياة سابقة. رواية تقول تحوّلات تكاد تكون مدمِّرة، لشدّة سطوتها المؤدّية إلى إلغاء جمال زمن سابق، وحيويته وغليانه. أو ربما تقول إنّ الكلمة مطلوبة، فالصورة السينمائية عاجزةٌ، أقلّه في الفترة الآنيّة، عن أنْ تعكس شيئاً من ذات وتفكير وتأمّل، مع أنّ في الكلمة/الرواية كمّاً رائعاً من السينمائيّ/البصريّ.
روايته الأولى غير جاذبةٍ اهتماماً نقدياً تستحقّه. فيها نَفسٌ سينمائي، وهذا معتاد في الرواية، عامةً. فيها سردٌ، مبسّطٌ من دون تسطيح وسلس من دون ثرثرة، يكشف تاريخاً مرتبطاً ببلدٍ وعلاقاتٍ تتجاوز المحليّ والإقليمي. فمصر (القاهرة والإسكندرية تحديداً) مساحة تتّسع لثقافاتٍ تتحاور، ولأناسٍ يُقيمون فيها دهوراً، قبل تحوّلات تُصيبها بأعطابٍ قاتلة.
في نصّه الفيسبوكيّ، يكتب خيري بشارة الآتي: "علاقتي الآن بالقاهرة مُعقّدة. تعني كلمة القاهرة الهازِمَة بِشِدَّة". يستعيد زمناً، فيقول إنّه يمكث في شبرا بين عامي 1953 و1992: "(شبرا) حيٌّ يتّسم بالتعّددية، إذْ يعيش المسيحيون والمسلمون فيه جنباً إلى جنب"، قبل أنْ يذكر أنّه شاهدٌ على "الانحدار الثقافي لمصر بدءاً من سياسة "الانفتاح" لأنور السادات، وانتهاءً بالدولة البوليسية الفاسدة لحسني مبارك (...)".
في النصّ الفيسبوكي حنينٌ ورغبةٌ في إخراج شيءٍ من الذاكرة إلى عَلَنٍ. يكتب بشارة أنّه، حين يودّ تجديد علاقته بالمدينة (القاهرة)، يذهب إلى "كافيه ريش" ("مقهى ريش، عينٌ على مصر" لميسون صقر، الصادر عن "دار نهضة مصر" عام 2021، أحدث نصٍّ عنه)، ذاك الحيّز الذي يبدأ بمكانٍ ملموس، وينفتح على مسارات ومصائر، وتواريخ وفترات وأناسٍ، وتفكير ونقاش وصدامات. حيّزٌ يؤسَّس عام 1908، ويعيش الآن انهياراً تلو آخر: "(كافيه ريش) يحمل ذكرياتي مع زوجتي لدى عودتنا من بولندا، مطلع السبعينيات (الماضية)". هناك، يُكوِّن صداقات كثيرة، مع كتّاب ومؤلّفين موسيقيين: "أحبّ رؤية فلفل ومجدي. يعمل فلفل هناك منذ ولادتي، أمّا مجدي، فعاشق للكتب". و"ريش" سابقاً "مقرّ تجمّع النخبة الثقافية، يُذكّرني بالعصر الذهبي لمصر، وبتاريخي الشخصي، وكيف أصبحتُ ما أنا عليه الآن". وأيضاً كيفية تنمية وعيه، و"ما أحِبّ في مصر". فالمكان "مستودع ذكريات"، و"رمزٌ لليسارية وجيل الستينيات والحَمِيَّة الثوريّة". ذكرياته المفضّلة تعود إلى الأوقات التي يُمضيها هناك في أعوام الثقافة والتمرّد: "في رأيي، يمكن تلخيص مصر الحديثة" في هذا الـ"كافيه".
إنْ يكن محمد خان "أفضل مُصوِّر للقاهرة"، كما يكتب بشارة، فإنّ مخرج "كابوريا" (1990) و"يوم مرّ.. يوم حلو" (أفضل أفلامه كما يُحدِّد هو نفسه هذا الاختيار) يكاد يكون أفضل ممزِّق لأقنعةٍ يريدها الفرد أو تُفرَض عليه، قبل أنْ يحين موعد تمزيقها، إرادياً أو فرضاً. غالبية شخصيات أفلامه متألمةٌ، وألمها دافعٌ إلى بحثٍ عن منفذٍ وخلاصٍ.
في "كابوريا" مثلاً، يواجِه حسن هدهد (أحمد زكي) موانع تحول دون تحقيق حلمه، المتمثّل بالمشاركة في مباريات دولية في الملاكمة، التي يُتقنها في حيّه الشعبيّ. مساره مليء بخضّات لاحقة على بلوغ أمجادٍ ستكون عابرة، فالصراع بين طبقتين اجتماعيتين (أثرياء وفقراء) ـ رغم عدم كونه (الصراع) ركيزة أساسية للنصّ الدرامي، بل جزءاً منه، وإنْ مواربة ـ يدفع حسن إلى مواجهة ذاته أمام مرآة نفسه. الحيّ الشعبيّ للمدينة (أتكون القاهرة، أم القاهرة وغيرها معاً؟) يلتقطه بشارة كمن يُفكِّك بعض ما فيه من أنماط حياة ومسالك وعلاقات، قبل الانتقال إلى مكانٍ آخر، يُفكّكه المخرج بحنكةِ مُتبصّر في أحوالٍ وانفعالات.
هذا حاصلٌ، وإنْ باختلافٍ في المعاينة ـ المقاربة ـ التبصّر، في "يوم مرّ.. يوم حلو". التقاط بشارة الحيّ الشعبي لحسن هدهد يحضر، بطريقة ما، في التقاط عائشة محمد (فاتن حمامة) عالماً متكاملاً، بتفاصيله ومناخاته ومتاهاته وزواريبه، يُجسّده حيّ شُبرا، الذي لفاتن حمامة، كما لخيري بشارة، علاقة وثيقة به، مع اختلاف شكل العلاقة طبعاً، وانفعالاتها وذكرياتها. التماس نبضٍ أو مخفيّ أو مُوَارَب، في ذاتِ فردٍ (أو أكثر) كما في تفاصيل الحيّ، يُبهر بشارة بكيفية تقديمه سينمائياً.
ألن يكون التماسٌ كهذا سمة، أو إحدى أبرز سمات "الطوق والإسورة" أيضاً؟ ماذا عن "إشارة مرور" و"حرب الفراولة"، مثلاً؟ أو "العوامة رقم 70"، وفيه تداخلٌ بين السينما والحياة، إلى جانب "كشف مستور" في بيئة عمّال يشتغلون في "محلج للقطن"؟
كلّ فيلمٍ لخيري بشارة يستحق نقاشاً مستقلّاً، وأفلامه كلّها غير متساويةٍ في جمالياتها، وهذا عاديّ وطبيعي. كلّ فكرة وكلّ تقديمٍ لحالة أو شعور أو تأمّل أو سلوك، يستحقّ قراءة أو أكثر، ومُشاهدة وأكثر. التفاوت غير حاجبٍ متعة مُشاهدة، وهذا جزءٌ من سيرة فردٍ ومهنة.
فهل يُحرِّض تكريمُه في "مالمو 14" على إعادة مُشاهدة/قراءة نتاجاته؟