تعيش المهرجانات السينمائية المغربيّة، هذه الأيام، تناقضاً قويّاً، رغم انتعاشٍ لا مثيل له: برامج مُعطّلة. مهرجانات افتراضية مُرتبكة. توقيع كتب روائية، بدلاً من أنْ تكون سينمائية. اقتصار لجان التحكيم على أعضاء المهرجان وعائلاتهم بحجّة التخصّص والنقد والمعرفة. عرض أفلام قديمة، معروضة سابقاً في مهرجانات مغربية وعربية، من دون أنْ تُحدث أيّ تأثير، فاللجوء إلى هذه الفيلموغرافيا القديمة، لا علاقة له بأهميّة الفيلم، وبما تُضمره اشتغالاته من قيمٍ فنية وجمالية، بقدر ما هو عامل يُغذّي برامج المهرجانات، ليكون الدافعُ إلى تنظيم مهرجانٍ ما قويّاً، يستند إلى أدبيّات الوثائق الإدارية الرسمية.
تحايلٌ سينمائي يُمرَّر قانونياً، من دون تحذير من الصحافة والنقد، المُشارِكَين في اللعبة المهزلة، وفي مرّات كثيرة يُصبح الناقد السينمائي، رغم حضوره، كأنْ لا علاقة له بما يحدث في المهرجان. لجان مؤلّفة من عاملين في مجالات أخرى خارج السينما، والواقع المغربي لا يشهد لهم بأي عشق سينيفيلي، أو مقالة نقدية، أو تفكير سينمائي. مع ذلك، يترأسون لجان التحكيم، ويحضرون دائماً في مهرجانات، أجّجت كورونا برامجها، وجعلت رؤساءها يُسرّعون تنظيم مهرجان في وقته المحدّد، كي تستفيد الجهة المُنظِّمة من الدعم المالي، الممنوح لها قانونياً.
الغريب في الأمر، أنّه بمُجرّد انتهاء المهرجان، لا يُسمَع شيءٌ عن مديره وإدارته وطاقمه، إلا بعد مرور سنة، مع تقديم طلب دعم جديد إلى "المركز السينمائي المغربي" (1944)، تحضيراً للدورة الجديدة، من دون رقابة إدارية من المركز، ولا مراجعة سينمائية من الصحافة والنقد، فتُمنح عشرات ملايين الدراهم المغربية لمهرجاناتٍ نُظِّمت افتراضياً، وفي بيوت مُعتمة وقاعات مُغلقة.
إذا كانت السينما العالمية فنّاً شعبياً، فإنّها تغدو في المغرب مُجرّد حظوة اجتماعية، يستفيد من خيراتها مُقرّبون من الجهة المُنظِّمة للمهرجانات. أكثر من ذلك، لا يُدعى سينمائيون مُخضرمون، فالدعوات محكومة بمنطلقات سياسية، أكثر من كونها سينمائية ونقدية ومعرفية.
لكنْ، ما الذي يجعل جهة أو جمعية تُفكّران في تنظيم مهرجان فني؟
الجديد السينمائي المغربي غير موجود حالياً. الممنوح من العام الماضي لمشاريع عدّة، لم يكتمل تصويرها. هناك تحايل على الدعم، وهناك عدم اكتمال الشطر الثاني منه، أمام تراكم الديون المتعلّقة بتكاليف مُعدّات التصوير ومستحقّات ممثلين وعاملين في الكتابة والصناعة.
نيّة التنظيم سيئة، والأفق السينمائيّ مُجرّد خراب مُتدثّر بتاريخ نوستالجي، لم يعُد سوى تكرار مملّ لتراكمات مهنةٍ، تعيش انهياراً أخلاقياً وروحياً. السينمائي الجادّ غير مدعوم، فيصرخ، لكنْ لا أحد يلتفت إليه، حتّى لو انتحر. يضطرّ إلى موافقة لجنة الدعم على حذف مَشاهد سياسية أو جنسية، وعلى تغيير خطّ الفيلم وتهدئة خطابه الناقد أو الساخر من اجتماع ونفوس وعقليات وسُلطات. بعض آخر (قلائل) لا يتنازل عن مسار حكايته، ومدى تشابكها وتلاقيها مع أنظمة قاهرة، وسلطات قمعيّة، ومُعتقدات بائدة ومُتجذّرة في الاجتماع المغربي، وهذا البعض مرفوض عادةً من الجميع.
هكذا يضطرّ المُخرج إلى الهجرة إلى فرنسا أو بلجيكا أو أميركا، بحثاً عن جهات ومُؤسّسات لها إمكانيّة الدعم. والمُثير للدهشة أنّ غالبية هذه الأفلام المُنجزة بدعم خارجيّ تحصل على جوائز مُهمّة، لأنّها غير مُقيّدة بحدود اجتماعية أو سياسية أو دينية، فيكون الاشتغال السينمائي الهاجس الأساسي في إنجاز الفيلم. وبما أنّ معظم المهرجانات السينمائية لا تقبل عرض فيلمٍ خارج عن تقاليد العائلة، تتهافت على الأفلام الفائزة، وإنْ كانت مُرتبكة أحياناً، لأنّ الجائزة الغربية دافعٌ إلى عرض الفيلم مغربيّاً، ما يجعلها خاضعة لسُلطة الغرب، ونظرته إلى السينما ومُتخيّلها في المَغرب.
المُحزن في سيرة العشق السينمائيّ في المغرب أنّه، رغم ويلات وتخبّطات ومآزق وتصدّعات ألمّت بالبلد بسبب كورونا، لم يتغيّر شيء: العقلية نفسها لا تزال تحكم البلد، ونظامه وناسه ومؤسّساته ومثقّفيه.
أثار البلاغ، الذي نشره "المركز السينمائي المغربي" أخيراً عن حصيلة دعم الأفلام السينمائية، نقاشاً جادّاً بين النقّاد، وسخطاً كبيراً بين المُخرجين، وفرحة عارمة بين مُنظّمي المهرجانات، إذْ كشفت (الحصيلة) عن سوء تدبير الشأن السينمائي، والبؤس الذي يُخيّم على يوميّاته ومساره في إنتاج فعل حداثي، يُخرج المُجتمع من جموده وتكلّسه، ويجعله في قلب الحياة السينمائية المعاصرة، بما تشهده من تغيّرات وتحوّلات، تأليفاً وصناعة.
لا شيء تغيّر. المشروع القاتم نفسه، والرؤية نفسها القائمة على ثقافة التهريج والتنميط والترفيه، التي طبعتها مهرجانات مركزية في دوراتها المُنصرمة، بتقديم رؤسائها برامجهم في مقر المركز، برئاسة إدريس اليزمي، وأمام لجنة مؤلّفة من ياسمينة ناجي والسعدية العطّاوي وسابرينا كاميلي وعلي بنزكري والغال أكريمش وعبد الحق أفندي وحسن المتقي.
أما المبلغ الإجمالي، فبلغ هذا العام 17 مليوناً و800 ألف درهم مغربي (مليونا دولار أميركي تقريباً، فالدولار الواحد يُساوي نحو 8.90 دراهم مغربية)، بحسب البلاغ الصحافي للمركز. ودرست اللجنة 60 ملفاً مُقدَّماً من مهرجانات عدّة، يتبوّأ "المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، في دورته الـ20 لعام 2021، المرتبة الأولى، بمبلغ 4 ملايين و200 ألف درهم مغربي (472 ألف دولار أميركي تقريباً).
المُلاحَظ أنْ لا أحد يستفيد من هذا المهرجان، إنْ كانوا صحافيين أو نقاداً أو مخرجين، إذْ لا تتمّ دعوتهم، إلى درجة أنّ المهرجان نفسه بدا، في دوراته الأخيرة، كأنّه غربيّ. فالأفلام الفرنسية والأميركية والنرويجية والألمانية كثيرة، في مقابل شحّ أو غياب أفلام مغربية وعربية، ما جعل محبّون كثيرون للسينما يتساءلون عن جدواه في خدمة الثقافة السينمائية الوطنية، بعيداً عن التهريج البصريّ، والبذخ والأضواء، إلى جانب بهتان التغطيات الصحافية المنقولة في منابر وجرائد ومجلات غربية.
مع ذلك، كلّما حلّ موعد "المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، تحصل مؤسّسة المهرجان (الجهة المنظّمة) على هذا المبلغ، تاركةً المرتبة الثانية لـ"مهرجان الفيلم الوثائقيّ حول الثقافة والتاريخ والمجال الصحراوي الحساني العيون"، مع مليوني درهم. هذا المهرجان يطاوله نقدٌ لاذع من النقاد، لاعتقادهم أنّه يلتهم مبلغاً كبيراً، إما من طريق المهرجان أو الأفلام المعروضة على جهات الدعم، من دون جديد يُذكر في صناعتها، أو تأثيرها في المُنجز الوثائقيّ المغربي، الجامد منذ أعوام.
صحيحٌ أنّ مهرجاناتٍ كهذه تؤدي دوراً كبيراً في التعريف بأفلام وثائقيّة، تُعنى بدراسات أنثروبولوجية عن تاريخ منطقة الجنوب المغربي؛ لكنّ المُشكلة كامنة في أنْ لا وجود لمُنجز فيلموغرافي يستحقّ الإشادة والنقد. فمعظم الأفلام تُحرّكها رغبة وطنية مُنفعلة، أو نقل مباشر للواقع ـ الظاهرة ـ المسألة، من دون أنْ يُفكّر المخرج في أنّ المُقبل عليه عمل إبداعي، ينبغي أنْ تتوافر فيه مفاهيم فكريّة وشروطاً فنية وجمالية، لا مجرّد أحلام وطنية. على هذا الأساس، تبدو بعض أفلام هذا المضمار كأنّها "كرنفال بصريّ"، أكثر من كونها أفلاماً وثائقية، ترصد تاريخ منطقة وسيرة اجتماع مناضل، يُعاني بصمتٍ إقصاءً وتهميشاً أمام كاميرات المُؤسّسات الرسمية.
بعيداً عن الجانب الإحصائيّ المحض، تفتقر الجهة المسؤولة عن دعم الأنشطة السينمائية لعام 2021 إلى ما يجعلها صاحبة مشروع إداريّ تجديديّ، قادر على فهم خصوصيات المرحلة واستيعابها، التي تمرّ فيها السينما المغربيّة، بعلاقتها بالعالم الخارجي، ما يجعلها (الجهة) تُساهم في ضخّ دماء جديدة في السينما، وتُعيد إحياء مهرجانات هامشيّة، أُجهضت مشاريعها السينمائية أمام خيبات الدعم ونخبويّته وفانتازيته. فبدلاً من إعادة الاعتبار إلى مهرجانات سينمائية صغيرة، يتمّ تغريبها وتهميشها وإحباطها بفُتات من الدعم، يضغط فقط على الجُرح، ويزيد الخذلان والألم والمعاناة والفراغ النفسي، في مناطق يباب من الاجتماع المغربي.
المُثير للدهشة أنّ معظم رؤساء هذه المهرجانات الهامشيّة نقّاد وعاملون في الصناعة السينمائية، وبعضهم من خيرة السينفيليين الذين أسّسوا مسار السينما المغربيّة ووعيها في سبعينيات القرن الـ20، عبر أندية السينما وقوافلها، وقدّموا إمكانات هائلة لتجذير الثقافة البصريّة، من خلال مقالات ودراسات وترجمات ومُؤلّفات ولقاءات وندوات. أفلا تستحق هذه الأسماء إعادة الاعتبار إليها، وإلى مكانتها في السينما المغربيّة، بعد أعوامٍ طويلة من قهر سياسيّ وفراغ نفسيّ في مدنٍ صغيرة، باتت أشبه بقبور تبدو فيها حيوات الناس ويوميّاتهم كأنّها فُسحة أو استراحة، استعداداً لموت وشيك؟
كلّ هذا في مقابل مهرجانات مركزية فارغة من الفن والجمال. الجميع موجودون إلا السينما، التي تظلّ غائبة عن جمهور مغربي، لم يعُد هو الآخر يُراهن على السينما كأفق ثقافيّ، أو خلاص نفسيّ يُحرّره من يوميّات القهر والخراب في البلد. وإذا لم تكُن السينما فنّاً شعبيّاً للناس جميعاً، يصنع أفراحهم ويُفرّج كربهم ومآزقهم، فلماذا تلجأ الدولة إلى هذه المهرجانات، التي يكون موعد تنظيمها مُجرّد ألم مُضاعف وتذكير مُسبق بفئة سياسية اجتماعية، تُحاول سحق الطبقة الفقيرة والمتوسّطة، وبجعلها بعيدة عن السينما ومُتخيّلها الإبداعي؟
الدعم السينمائيّ في المغرب وسيلة للاغتناء، بل وظيفة مَنْ لا وظيفة له. جمعيات مُفبركة تُدير مهرجانات سينمائية من دون مقرّات عمل، تجمع فرقاً سينمائية مُحترفة، تتطلّع إلى تجديد المهرجانات ببرامج سنوية، تحفظ أمانتها وكرامة العاملين فيها، وتُبرز أهميّتها ومكانتها في مواجهة مهرجانات سينمائية أخرى.