- فيلم وثائقي بعنوان "Rachel" أخرجته سيمون بيتون عام 2009، يسلط الضوء على قضية راشيل كوري من خلال شهادات مقربين ومقابلات مع عائلتها وأصدقائها، مكشفًا عن الإنكار والتشويه الذي مارسته السلطات الإسرائيلية والأمريكية.
- قصة راشيل كوري تعكس الإرث العالمي للتضامن مع فلسطين، حيث انضمت إليها منظمات ودول من مختلف أنحاء العالم، مثل جنوب أفريقيا التي دفعت بالقضية إلى محكمة العدل الدولية، مؤكدة على أن النضال من أجل العدالة والحرية يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.
"ثمة قلق كبير هنا في شأن "إعادة احتلال غزة". الاحتلال يعود إلى غزة كل يوم بدرجات متفاوتة، لكنني أعتقد أن الخوف هو من أن تدخل الدبابات كل الطرق وتبقى فيها، بدلاً من دخول بعض الطرق ثم الانسحاب بعد بضع ساعات أو أيام للمراقبة وإطلاق النار من أطراف البلدات. إذا كان الناس لم يفكروا حتى الآن في عواقب هذه الحرب على شعوب المنطقة بأكملها، فإنني آمل بأن تبدأوا أنتم بذلك". (من رسائل راشيل كوري إلى عائلتها وأصدقائها، في 20 فبراير/شباط 2003).
المكان، قطاع غزة، مدينة رفح بالتحديد. الزمان في السادس عشر من مارس/آذار عام 2003. البطلة، شابة في الثالثة والعشرين من عمرها، ترتدي سترة برتقالية ترفرف مع نسيم البحر الأبيض المتوسط، يرتديها متطوعو "حركة التضامن العالمية" (ISM). ترفع الشابة في يدها شعار "كن إنساناً"، وفي الأخرى مكبر صوت. المجرم، جندي في جيش الاحتلال الإسرائيلي، يقود بلدوزر من نوع كاتربيلار، يهدم منازل السكان الأصليين، من خلفه تقف دولة الاحتلال وحكومات العالم الغربي.
تتحدث الفتاة بمكبر الصوت علها تمنعه من التقدم. نغدو أمام مشهد تراجيدي لـ"صراع" بين البلدوزر والناشطة؛ إذ تناور الكتلة الحديدية بجسدها الأعزل. فجأة، تتقدم البلدوزر بشفرتها المنخفضة وتهرسها ذهاباً وإياباً. تتراجع البلدوزر إلى الحدود، ويتحلق الأصدقاء حول الشابة، لتخبرهم بأن ظهرها قد كُسِر، ثم تلفظ أنفاسها الأخيرة. الأميركية راشيل كوري، بطلتنا، اختلط دمها بتراب فلسطين. كانت قد وصلت إلى قطاع غزة لتنخرط بالمقاومة السلمية مع حركة التضامن الدولية. لم يكن هدفها فقط إيقاف الهدم الممنهج لمنازل الفلسطينيين، بل كانت تريد أن تجد معنى للإنسانية والتعايش والسلام، وأن تفتح مجالات واسعة وآمنة أمام حياة الفلسطينيين، حتى ولو كانت غير قادرة على تحمل هذه التكلفة.
لم تحصل قضية راشيل كوري على صدى واسع في الغرب، إذ كانت أميركا حينها -كما الاحتلال الإسرائيلي اليوم- تعسكر المجتمع وكل ما يرتبط به وتعبئه من أجل حربه على العراق. التقطت سيمون بيتون (69 عاماً) المخرجة المغربية الفرنسية الإسرائيلية اليهودية المعادية للصهيونية (هكذا تعرف عن هويتها المركبة) القضية، بعد أن رأت في راشيل انعكاساً لتجربتها المناهضة للعنف في شبابها. بدأت بيتون بالبحث في جبل الأكاذيب والإنكار الذي مارسه الاحتلال في القضية ومن خلفه الحكومة الأميركية، لتصنع فيلماً وثائقياً بعنوان Rachel صدر عام 2009.
نجحت بيتون بتقديم مادة متكاملة محبوكة برهافة. تنقلت كاميرتها بين الصف الأخير من المنازل المقابلة للجدار العازل، وقابلت أصحاب هذه المنازل التي هدمها الاحتلال، ليتحدثوا عن راشيل كوري التي كانت تتنقل بين منازلهم لتحميها. قابلت أصدقاءها الذين شهدوا على جريمة قتلها، وتحدثت مع والديها اللذين ما زالا حتى اليوم يشاركان في حركة التضامن العالمية، ويحاولان محاكمة الدولة المجرمة. ضَمَّنت في الفيلم أيضاً مقابلات مع عناصر في جيش الاحتلال والمتحدثة الرسمية باسمه، ليتبدى لسيمون ولنا أن الإنكار والكذب والتلفيق والتشويه للحقائق هي صنعة إسرائيل التاريخية. وتوارث أبناء دولة الاحتلال هذه الصنعة، حتى تحولت إلى سلوك الأفراد وثقافة مجتمعية حاملها الأساس هو الإفلات من العقاب. حتى المحقق الإسرائيلي الصهيوني كان مقتنعاً من قبل أن يصل إلى مسرح الجريمة أنه لن يجد دليلاً واحداً وأن أحداً لن يعترف بشيء.
بيتون لا تواجه مباشرةً ولا تتدخل في حديث من تقابله، تتبع أسلوباً هادئاً في التصوير. أسلوب تتكشف بسببه الأسئلة ومن بعدها الدلائل. بين المقابلات، نسمع أصوات من أحبوا راشيل كوري يقرؤون رسائلها ومذكراتها، فتتمثل ثقافة راشيل وقيمها الإنسانية ووعيها الاجتماعي كناظم إيقاع للفيلم، كما تمثلت بضميرٍ ووجدانٍ دفعاها إلى الذهاب إلى مكان لا يربطها به شيء سوى الإنسانية.
المخرجة ملتزمة منذ بداياتها السينمائية بتوثيق تاريخ الثقافات والديانات المتشابكة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكانت فلسطين هي بوصلتها الأخلاقية، بوصفها أرضاً عاشت عليها الطوائف التوحيدية بتناغم لم يتزعزع إلا حين أتى المستَعمِر، ذلك تجسد في العديد من أفلامها "الجدار" (2004) و"محمود درويش" (1998) و"فلسطين، قصة أرض" (1996) وأحدث أعمالها "زيارة" (2022).
قصة راشيل كوري جزء لا يتجزأ من رواية الإرث العالمي للتضامن مع قضية فلسطين. قضيتها انتهت في المحكمة الإسرائيلية عام 2013 بتبرئة المجرم، ورفضت الولايات المتحدة دعوى مدنية رفعتها عائلتها ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لم تنته من الضمير العالمي، وهي موجودة كقيمة مضافة في خزان رأس المال الأخلاقي المتمثل في القضية الفلسطينية. تلك الرواية التي تمتد أحداثها منذ نكبة 1948، مناصروها أفراد كراشيل كوري والمصور البريطاني توم هرندال الذي قتله أحد قنّاصة جيش الاحتلال عام 2004 في رفح أيضاً، والطيار الأميركي آرون بوشنل الذي أضرم النار في جسده ومات وهو يصرخ "فلسطين حرة". وأخيراً، قتل جيش الاحتلال سبعة من أعضاء فريق جمعية "المطبخ المركزي العالمي" بغارة. القتلى من أستراليا وبولندا والمملكة المتحدة، ومواطن يحمل الجنسيتين الأميركية والكندية، وفلسطيني، لتضطر الجمعية إلى تعليق عملياتها في قطاع غزة.
إلى جانب هؤلاء الأفراد، هناك منظمات ودول نشطت وساهمت في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، كجماعات كحركة التضامن العالمية، ومجتمعات مدنية في العالم كالتي نرى مظاهرتها تطوف الشوارع، ودول كجنوب أفريقيا التي حملت هذه الرواية وذهبت بها إلى محكمة العدل الدولية لتدين المجرم بعينه.