في حفلة الخميس 7 ديسمبر/كانون الأول سنة 1950، قدمت أم كلثوم لأول مرة أغنية "رباعيات الخيام"، ثم أعادت تقديمها بعد ذلك الحين في 21 حفلة داخل مصر وخارجها. وقع اختيار أم كلثوم على مجموعة من الرباعيات التي ترجمها أحمد رامي، ولحن رياض السنباطي الأغنية التي يقول مطلعها: "سمعت صوتاً هاتفا في السحر/ نادى من الغيبِ غفاةَ البشرْ... هبوا املأوا كأس المنى قبل أن/ تملأ كأسَ العمرِ كفُّ القدرْ". يرى النقاد أن هذه الأغنية تكاملت فيها عناصر النجاح، بدءاً من المؤلف عمر الخيام، مروراً بأحمد رامي في ترجمته الناجحة وصياغته الشعرية الموفقة، التي بلغت المعنى بأسهل العبارات، ثم برياض السنباطي في لحنة الزاخر الثري الفياض، وانتهاء بأم كلثوم في غنائها الذي شكل ظاهرة بلغت حد الإعجاز. عاش عمر الخيَّام (أو إبراهيم الخيام) في العصر السلجوقي.
وكان من علماء المسلمين البارزين في القرن الخامس الهجري، ومن شعرائه كذلك. ولد في نيسابور بخراسان في 18 مايو/أيار 1048 ميلادية. ويقال إن والده كان يعمل في مهنة الخيامية فأخذ منه هذا اللقب. وقد عاش 83 سنة، حيث توفي ودفن في نيسابور أيضاً سنة 1131. ويقال إنه دُفن في قبر كان قد تنبأ بموقعه في شعره، في بستان تسقط فيه الأزهار مرتين في السنة، ويطلق على ذلك المكان الآن ضريح عمر الخيّام. ولكن يقال إن الحكومة الإيرانية نقلت رفات الخيام إلى قبر آخر أقيم في قريته سنة 1963.
هو واحد ممن يطلق عليهم في الأدب العباسي "أصحاب اللسانين: الذين يتكلمون الفارسية والعربية". وبالرغم من شهرته شاعراً، فإنه كان من علماء الطب والكيمياء والرياضة والفلك والفلسفة واللغة والتاريخ. وللرباعيات شهرة عالمية، ألفها عمر الخيام بالفارسية، وقد ظلت نسختها مغمورة بين المخطوطات القديمة إلى أن وقع المستشرق البريطاني كويل على أقدم نسخة منها في مكتبة بودليان في أكسفورد، ثم عهد بها إلى الشاعر الإنكليزي فيتزجيرالد، الذي درسها وأخرج لها أول ترجمة سنة 1859. وقد عكف عليها الأدباء في الغرب زمناً حتى تأسس ناد باسم الخيام في لندن سنة 1892.
في حين أثبت المستشرق الروسي نزوفسكي 82 رباعية مدسوسة على الخيام. ولا شك في أن الرباعيات كانت مصدراً لأعمال فنية عالمية، مثل ما قدمه الموسيقار البريطاني بانتوك الذي ألف الرباعيات ثلاثة فصول طعمت موسيقاها بمزاج شرقي إسلامي. كذلك يوجد عمل للموسيقار البولندي سيزيمانوفسكي. وبالتأكيد لا يخلو الفن الفارسي من إبداعات تأسست عليها. نقلت الرباعيات إلى معظم لغات العالم، ولها عدة ترجمات عربية، منها ترجمة محمد السباعي، ووديع البستاني، وأحمد الصافي النجفي، وجميل صدقي الزهاوي، وأحمد رامي، وغيرهم. في الماضي، كان يقال إن الرباعيات هي كل ما بقي من شعر الخيام، ولعلها كل شعره، ولها على صغر حجمها وضئيل عددها كل الفضل فيما يتمتع به الخيام من شهرة وذيوع. ولكن هناك القليل من شعره العربي قام بجمعه ونشره الدكتور يوسف بكار الأستاذ بجامعة اليرموك الأردنية.
لا شك في أن الرباعيات كانت مصدراً لأعمال فنية عالمية، مثل ما قدمه الموسيقار البريطاني بانتوك الذي ألف الرباعيات ثلاثة فصول طعمت موسيقاها بمزاج شرقي إسلامي
يقول أحمد رامي: "وصل عدد الرباعيات إلى ثمانمائة في أحد مخطوطات كمبردج، وأقدم مخطوط لها في أكسفورد لا يحوي غير ثماني وخمسين ومائة رباعية". وقد جاءت ترجمة أحمد رامي لهذه الرباعيات من الفارسية إلى العربية حين أرسلته دار الكتب المصرية إلى باريس لدراسة اللغة الفارسية؛ فعثر على نسخة منها لمسيو نقولا التي قام بنشرها في عهد نابليون الثالث، فنقلها رامي إلى العربية. وحار الأدباء والنقاد في فهم الخيام، فمنهم من اعتبره ماجناً لا يعتد بالأديان ولا يؤمن بالحياة الآخرة، وبعضهم عده من الصالحين الصوفيين. وهو بالرغم مما يمكن تأويله في أشعاره بالشكوك والحيرة؛ فإن فيها أيضاً ما يمكن تأويله بعمق الإيمان، حتى أدخل الصوفيون بعض أشعاره في أورادهم، ومع ذلك فإن بعضهم ناصبه العداء وهدده بالقتل فاعتكف في منزله وأعرض عن لقاء الناس.
مسألة تأويل أشعار عمر الخيام تعود إلى تداخل مجموعة من الأفكار الفلسفية، وقد احتاط له أحمد رامي مدافعاً عن نواياه الصادقة في البحث عن الحق، حين بدأ ديوانه بكلمة للخيام يقول فيها: "اللهم إني عَرفتك على مبلغ إمكاني فاغفر لي؛ فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك". ويمكن الوقوف على الشكوك الخيامية في مثل قوله: "لبست ثوب العيش لم اُسْتَشَرْ/ وحِرتُ فيه بين شتى الفِكر.. وسوف أنضو الثوب عني ولم/ أُدْرِكْ لماذا جِئْتُ أين المفر". لكن في المقابل يمكن الوقوف على الإيمان العميق بالله أيضاً في قوله: "يا من يِحارُ الفَهمُ في قُدرَتِك/ وتطلبُ النفسُ حِمى طاعتك.. أسْكَرَني الإثم ولكنني/ صَحَوْتُ بالآمال في رَحمَتِك.. يا عالمَ الأسرار عِلمَ اليَقين/ وكاشِفَ الضُرِّ عن البائسين.. يا قابل الأعذار عُدْنا إلى/ ظِلِّكَ فاقْبَلْ تَوبَةَ التائبين".
وكان استغراق الخيام في الفلسفة وعلم الكلام قد انعكس على بعض رباعياته، فردد فيها بعض أفكار فرقة الجبرية التي طُرحت عبر مسألة هل الإنسان مسير أم مخير؛ كقوله: "قد كان يدري الله كل فعالنا/ من يوم صور طيننا وبرانا... لم نرتكب ذنباً بدون قضائه/ فإذن لماذا ندخل النيرانا؟". يقول الباحث الموسيقي أيمن قويعة إن رياض السنباطي لحن هذه القصيدة سنة 1949. وإن هذا العمل مثل تحولا حاسماً في مسيرته الفنية مكّنه من الانضمام إلى كوكبة من كبار الملحنين للمطربة أم كلثوم (زكريا أحمد، والقصبجي) فأثبت جدارته في تلحين قالب القصيدة خاصة.
تحتوي القصيدة التي تغنت بها أم كلثوم على 15 رباعية، أدخلت عليها العديد من التحويرات، سواء على مستوى تغيير بعض الكلمات، أو على مستوى ترتيب الرباعيات، مقارنة بالقصيدة الأصلية التي ترجمها رامي. ويعرف من له خبره بفن العروض أنها مترجمة على بحر السريع. يرى قويعة أن الأغنية يمكن تقسيمها إلى وحدتين: الأولى، من بداية القصيدة إلى قول الشاعر "لم أدر لماذا جئت أين المفر"، ويقترح وضعها تحت عنوان "صوت الرغبة". أما الوحدة الثانية فتمثل بقية الأغنية أي الرباعيات الخمس الأخيرة التي يمكن وضعها تحت عنوان "صوت التوبة". وفي دراسة بعنوان "السنباطي ورباعيات الخيام"، خصصها الباحث ميسر شتات لهذه الأغنية؛ يذهب الباحث –في مقارنة بين الأطلال والرباعيات- إلى أن السنباطي لحن الرباعيات وفق فطرته الموسيقية النقية الخالصة، بخلاف الأطلال التي استخدم فيها الصنعة والحرفة اللتين تفرضان على الملحن مخالفة القاعدة في النظرية الموسيقية لمجاراة الواقع في حالات خاصة.
يقول شتات: "اختار السنباطي لهذه القصيدة مقام الراست من درجة دو، وإذا ربطنا بينها وبين المقام في حالته النفسية الانفعالية، فسنجد توافقا كبيراً بينهما، فمقام الراست هو مقام الطرب والسلطنة، مقام الفرح والحالة النفسية الطبيعية، مقام الشكوى والطلب بعزة وإباء، مقام يمتلك في تضاعيفه وتفاصيله أرقى الأحاسيس المرهفة المليئة بالحب والجمال والرقي، ويمتلك هذا المقام مساحات واسعة وشاملة تصلح لأن تحاكي أغلب المشاعر والأحاسيس وعلى ما يبدو من هنا اختار السنباطي هذا المقام لهذه القصيدة لقدرته على التعبير". عمر الخيام كان حاضراً مرة أخرى في أغاني أم كلثوم ولكن عن طريق جورج جرداق وقصيدته "هذه ليلتي"، في قوله: هلّ في ليلتي خيال الندامى/ والنواسي عانق الخياما.