سجّل منتصف القرن الثامن عشر في أوروبا سبْقاً رياديّاً، بتصميم المؤلف النمساوي جوزيف هايدن (1732 - 1809) لموسيقى تؤديها أربع آلات وترية، جعلتها التشابهات والتمايزات الشكلية والصوتية في ما بينها أسرةً آليةً واحدة، هي الكمان والفيولا والتشيلّو. فللآلات الثلاث أوتارٌ أربعة، وجميعها تُعزَف بسحب القوس على الوتر.
أما الفارق الأساسي، فعلاوة على الحجم، يكمن في المدى المحدّد ما بين الصوت الأشدّ رقّة، لدى الكمان الأصغر حجماً، ثم الفيولا، نزولاً في الشدّة وصعوداً بكبر الحجم، وصولاً إلى الأشد رخامةً والأكبر حجماً، أي آلة التشيلّو، التي تُعزف جلوساً، مركونةً على الأرض، موضوعةً بين الساقين.
منذ زمن هايدن، وبعده موتزارت وبيتهوفن، والمؤلفات الموسيقى الكلاسيكية الغربية لتشكيل الرباعي الوتري تتعاقب وتتعقّد. بظهور الإنتاج الموسيقي المُستقلّ عن كل من الكنيسة والبلاط منتصف القرن التاسع عشر، أخذت الفرق الموسيقية القائمة بتشكيل أسرة الوتريات تتكاثر وتتحدّث.
يُعد رُباعي إيمرسون الوتري الأميركي (Emerson String Quartet) ومقرّ تأسيسه مدينة نيويورك، من بين الأفضل في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد صدر له خريف العام الماضي ألبوم موسيقي بعنوان "رحلة بلا نهاية" (Infinite Voyage)، ليكون بمثابة إعلان اعتزال أعضاء الفريق العزف معاً. بذلك، يكون الإصدار الثامن والثلاثين والأخير على مدى 47 عاماً من سيرة مهنية زاخرة أثمرت، من بين عديد من الجوائز، عن جائزتي "غرامي" لقاء تسجيلين. أحدهما لأعمال المؤلّف الهنغاري بيلا بارتوك، والآخر للروسي ديمتري شوستاكوفيتش.
لأجل الإصدار الختامي، اختارت الفرقة الموسيقية طرح عملٍ غير مألوف لم تُسجلّه من قبل، ألا وهو المؤلَّف الثاني لرباعي وتري من آثار المؤلِّف الحداثي آرنولد شونبرغ (1874 - 1951). وثمة سببان للفرادة، يكمن الأول في اعتبار النقاد والمؤرخين العمل نقطةَ تحوّل الموسيقى الكلاسيكية الغربية أوّل القرن العشرين من السلّمية (أي الاعتماد على نمط لحني موحّد في كتابة مقطوعة من المقطوعات الموسيقية) إلى الحداثة اللاسلّمية، إذ لا يعود للمقطوعة مرجعية لحنية جامعة.
أما السبب الثاني، فهو إدخال المؤلِّف على مقطوعته دوراً غنائيّاً في الحركتين الأخيرتين من الحركات الأربع التي شكّلت سلسلتها، يضطلع بغناء نصوصٍ كتبها الشاعر الرمزي الألماني ستيفان غيورغ (Stefan George). بهذا، يُضاف صوتٌ خامسٌ إلى أصوات كل من الآلات الوترية الأربع. لأجل تسجيل الدور الغنائي، لجأ فريق إيمرسون إلى توسيع هامش المشاركة عبر استضافة مغنية الطبقة الصوتية النسائية "سوبرانو" الكندية باربارا هنينغان (Barbara Hanningan).
بُمقتضى الفترة التاريخية، أدرجت مقطوعة لرباعي وتري بعنوان مصنف رقم ثلاثة (Op3) من تأليف تلميذٍ لشونبرغ صار هو الآخر في ما بعد مؤلفاً حداثياً مرموقاً، ألا وهو النمساوي آلبان بيرغ (Alban Berg). أنهى بيرغ تلك المقطوعة سنة 1910، أي بعد سنتين من نشر أستاذه عمله، الرباعي الوتري الثاني، على الرغم من أن عشر سنوات قد مضت قبل أن يقدّم للمرة الأولى.
إتماماً للحلقة الحقبوية وبمشاركة هنينغان، تضمّن الألبوم عملاً لحداثيٍّ معاصرٍ آخر، هو الألماني بول هينديميث (Paul Hindemith) تحت عنوان ميلانكولي (Melancholie) كُتب لصوتٍ من طبقة السوبرانو بمصاحبة أسرة الوتريات. لأجله، لُحّنت أربع قصائد للشاعر الألماني كريستيان مورغنشترن (Christian Morgenstern).
لعل ما يُميّز الفترة المبكّرة من الحداثة اللاسلّمية، أو التعبيرية، التي اختار أعضاء رباعي إيمرسون أن تكون المادة الموسيقية لتسجيلهم الختامي، هو البدء بترؤس اللون الصوتي هرم العناصر المُحدِثة للتجربة السمعية. حتى القرن التاسع عشر، ظلّت التراتبية بين عناصر التعبير الموسيقي تبدأ بالإيقاع فالانسجام فاللحن. بالانتقال نحو القرن الجديد، جرى تغييب تدريجي للهوية المقامية للّحن، وبالمحصلة، تفكيك كلّ من التراكيب الهارمونية والإيقاعية المصاحبة الحاملة له، وإن ظلّت التحوّلات الأسلوبية سلسة إلى حدٍّ تصعب معه الإشارة إلى المؤلَّف الفارق أو المؤلَّف الرائد القائد إلى الحداثة.
مع فقدان اللحن هويّته المقامية، أو السلّمية بتعبير أدق، صار اللون الصوتي هو الحامل شبه الوحيد للشُحنة العاطفية والكمون الفكري في المقطوعة الموسيقية، أكان اللون مُحدَثاً بنغمة مُفردة أو بمزج نغمات عدة بموجب قواعد نظرية، لم تعد الغاية من ورائها صياغة لحن سائغ للأذن، وإنما على العكس، تجنّب أي حالة انسجام وألفة تَصل المستمع خبرويّاً بالعهد الموسيقي السابق، وتعمّد تحريضه على توسيع مداركه السمعية، ببثّ أصواتٍ شاذة نافرة تقترب من قيم النشاز، وذلك بنيّة إرساء حداثة موسيقية تُحقق قطيعة مع الماضي.
أما ما يُميّز الحداثة كمادة موسيقية على نحو خاص ليختم بها رباعيُّ وتريّ بعلوّ كعب إيمرسون وثراء مسيرته الفنية، إنما يكمن في خصوصية التشكيل الآلي الوتري ذاته، بآلاته المنتمية لأسرة واحدة لجهة كل من الشكل والصوت وطرق العزف. إذ وحدها، الكمان والفيولا والتشيلّو، بمقدورها حين تعزف معاً، من دون مشاركة أيّة آلة أخرى، أن تروي سردية موسيقية مكتملة العناصر وأن تبعث إلى الوجود عالماً موسيقياً متجانساً مُتكاملاً مُكتمل الأركان ومستوفياً لجميع المتطلبات التعبيرية. بالتالي، تظلّ ملكة صهر النغمات وتوحيد اللغة الموسيقية بين أعضاء الفريق المعيار الأهم عند الحكم على جودة الرباعي الوتري، وتفوّقه في أداء الأعمال الموسيقية المكتوبة له.
لهذا السبب، تشغل الوتريات، ومنذ عهد المؤسس هايدن، مركز اللبّ والقلب في تشكيل الفرق السيمفونية، وفي مخيلة من يؤلف الموسيقى لها ويوزّعها على آلاتها المختلفة. ولهذا السبب، أيضاً، تُشكّل فترة الحداثة اللاسلمية أوّل القرن العشرين المحكّ والتحدّي المُضني والممتع في آن معاً بالنسبة لأي رباعي وتريّ. إذ يقتضي الرقيّ في تقديم تلك الأعمال مسحوبة الألحان المقتصرة على عيارات صوتية دقيقة "رحلة بلا نهاية" من اختبارات دؤوبة لسنين طويلة في مزج الأدوار الموسيقية المتباينة بين الآلات الأربع، مع الاستفادة من تقاربها البنيوي، وموازنة مستويات الشدّة والخفّة، الحدّة واللطافة من أجل الوصول للصيغ اللونية البديعة التي خبأتها الموسيقى للأذن المُرهفة خلف مدارج النوتات.